فصل: أسطوانةٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


أسرةٌ

التعريف

1 - أسرة الإنسان‏:‏ عشيرته ورهطه الأدنون، مأخوذٌ من الأسر، وهو القوّة، سمّوا بذلك لأنّه يتقوّى بهم، والأسرة‏:‏ عشيرة الرّجل وأهل بيته، وقال أبو جعفرٍ النّحّاس‏:‏ الأسرة أقارب الرّجل من قبل أبيه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - لفظ الأسرة لم يرد ذكره في القرآن الكريم، كذلك لم يستعمله الفقهاء في عباراتهم فيما نعلم‏.‏ والمتعارف عليه الآن إطلاق لفظ ‏(‏الأسرة‏)‏ على الرّجل ومن يعولهم من زوجه وأصوله وفروعه‏.‏ وهذا المعنى يعبّر عنه الفقهاء قديماً بألفاظٍ منها‏:‏ الآل، والأهل، والعيال‏.‏ كقول النّفراويّ المالكيّ‏:‏ من قال‏:‏ الشّيء الفلانيّ وقفٌ على عيالي، تدخل زوجته في العيال‏.‏ وفي ابن عابدين‏:‏ أهله زوجته، وقالا، يعني صاحبي أبي حنيفة‏:‏ كلّ من في عياله ونفقته غير مماليكه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنجّيناه وأهله أجمعين‏}‏‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

3 - ما يعرف بأحكام الأسرة أو الأحوال الشّخصيّة فهو اصطلاحٌ حادثٌ، والمراد به مجموعة الأحكام الّتي تنظّم العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة‏.‏ وقد فصّلها الفقهاء في أبواب النّكاح والمهر والنّفقات والقسم والطّلاق والخلع والعدد والظّهار والإيلاء والنّسب والحضانة والرّضاع والوصيّة والميراث ونحوها‏.‏ وتنظر هذه الأحكام تحت هذه العناوين أيضاً، وتحت عنوان ‏(‏أبٌ، ابنٌ، بنتٌ‏)‏ إلخ‏.‏

أسطوانةٌ

التعريف

1 - الأسطوانة‏:‏ السّارية في المسجد أو البيت أو نحوهما‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ، ومواطن البحث

2 - في وقوف الإمام بين السّواري، وفي صلاته إلى الأسطوانة خلافٌ‏.‏ فقال أبو حنيفة ومالكٌ بالكراهة، وذهب الجمهور إلى عدم الكراهة‏.‏ وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة، في مبحث ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏‏.‏ أمّا المأمومون‏:‏ فقد اتّفق الفقهاء على أنّه إذا لم تقطع الأسطوانة الصّفّ فلا كراهة لعدم الدّليل على ذلك‏.‏ أمّا إذا قطعت ففيه خلافٌ‏.‏ فالحنفيّة والمالكيّة لا يرون به بأساً، لعدم الدّليل على المنع‏.‏ والحنابلة يرون الكراهة،«لما ورد من النّهي عن الصّفّ بين السّواري»إلاّ أن يكون الصّفّ قدر ما بين السّاريتين، أو أقلّ فلا يكره‏.‏ وقد ذكر الفقهاء ذلك أيضاً في صلاة الجماعة‏.‏

إسفارٌ

التعريف

1 - من معاني الإسفار في اللّغة‏:‏ الكشف، يقال‏:‏ سفر الصّبح وأسفر‏:‏ أي أضاء، وأسفر القوم‏:‏ أصبحوا، وسفرت المرأة‏:‏ كشفت عن وجهها‏.‏

وأكثر استعمال الفقهاء للإسفار بمعنى ظهور الضّوء، يقال‏:‏ أسفر بالصّبح‏:‏ إذا صلاّها وقت الإسفار، أي عند ظهور الضّوء، لا في الغلس‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الوقت الاختياريّ في صلاة الصّبح هو إلى وقت الإسفار، لما روي‏:‏ «أنّ جبريل عليه السلام صلّى الصّبح بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حين طلع الفجر، وصلّى من الغد حين أسفر، ثمّ التفت وقال‏:‏ هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك»‏.‏

ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ الإسفار بصلاة الصّبح، وهو أفضل من التّغليس، في السّفر والحضر، وفي الصّيف والشّتاء، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسفروا بالفجر»، وفي روايةٍ «نوّروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر»‏.‏ قال أبو جعفرٍ الطّحاويّ‏:‏ يبدأ بالتّغليس ويختم بالإسفار جمعاً بين أحاديث التّغليس والإسفار‏.‏

مواطن البحث

3 - يبحث الإسفار في الصّلاة عند الكلام عن وقت صلاة الصّبح، والأوقات المستحبّة‏.‏

إسقاطٌ

التعريف

1 - من معاني الإسقاط لغةً‏:‏ الإيقاع والإلقاء، يقال‏:‏ سقط اسمه من الدّيوان‏:‏ إذا وقع، وأسقطت الحامل‏:‏ ألقت الجنين، وقول الفقهاء‏:‏ سقط الفرض، أي سقط طلبه والأمر به‏.‏ وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ هو إزالة الملك، أو الحقّ، لا إلى مالكٍ ولا إلى مستحقٍّ، وتسقط بذلك المطالبة به، لأنّ السّاقط ينتهي ويتلاشى ولا ينتقل، وذلك كالطّلاق والعتق والعفو عن القصاص والإبراء من الدّين، وبمعنى الإسقاط‏:‏ الحطّ، إذ يستعمله الفقهاء بالمعنى نفسه‏.‏ ويستعمله الفقهاء أيضاً في إسقاط الحامل الجنين‏.‏ وسبق تفصيله في ‏(‏إجهاضٌ‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإبراء‏:‏

2 - الإبراء عند الفقهاء‏:‏ إسقاط الشّخص حقّاً له في ذمّة آخر أو قبله‏.‏ وهذا عند من يعتبر الإبراء من الدّين إسقاطاً محضاً، أمّا من يعتبره تمليكاً فيقول‏:‏ هو تمليك المدين ما في ذمّته‏.‏ وتوسّط ابن السّمعانيّ فقال‏:‏ هو تمليكٌ في حقّ من له الدّين، إسقاطٌ في حقّ المدين، وهذا بالنّظر لبراءة الإسقاط لا لبراءة الاستيفاء‏.‏

ويلاحظ أنّه إذا لم يكن الحقّ في ذمّة شخصٍ ولا تجاهه، كحقّ الشّفعة، فتركه لا يعتبر إبراءً، بل هو إسقاطٌ‏.‏ وبذلك يتبيّن أنّ بينهما عموماً وخصوصاً من وجهٍ‏.‏ غير أنّ ابن عبد السّلام من المالكيّة يعتبر الإبراء أعمّ من جهةٍ أخرى، إذ يقول‏:‏ الإسقاط في المعيّن، والإبراء أعمّ منه، لأنّه يكون في المعيّن وغيره‏.‏

ب - الصّلح‏:‏

3 - الصّلح اسمٌ بمعنى‏:‏ المصالحة والتّوفيق والسّلم‏.‏

وشرعاً‏:‏ عقدٌ يقتضي قطع النّزاع والخصومة‏.‏ ويجوز في الصّلح إسقاط بعض الحقّ، سواءٌ أكان عن إقرارٍ أم إنكارٍ أم سكوتٍ‏.‏ فإذا كانت المصالحة على أخذ البدل فالصّلح معاوضةٌ، وليس إسقاطاً، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ وجهيٌّ‏.‏

ج - المقاصّة‏:‏

4 - يقال تقاصّ القوم‏:‏ إذا قاصّ كلٌّ منهم صاحبه في الحساب، فحبس عنه مثل ما كان له عليه‏.‏ والمقاصّة نوعٌ من الإسقاط، إذ هي إسقاط ما للإنسان من دينٍ على غريمه في مثل ما عليه‏.‏ فهي إسقاطٌ بعوضٍ، في حين أنّ الإسقاط المطلق يكون بعوضٍ وبغير عوضٍ، وبذلك تكون المقاصّة أخصّ من الإسقاط‏.‏ ولها شروطٌ تنظر في موضعها‏.‏

د - العفو‏:‏

5 - من معاني العفو‏:‏ المحو والإسقاط وترك المطالبة، يقال‏:‏ عفوت عن فلانٍ إذا تركت مطالبته بما عليه من الحقّ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعافين عن النّاس‏}‏‏.‏ أي التّاركين مظالمهم عندهم لا يطالبونهم بها‏.‏ فالعفو الّذي يستعمل في ترك الحقّ مساوٍ للإسقاط في المعنى، إلاّ أنّ العفو على إطلاقه أعمّ لتعدّد استعمالاته‏.‏

هـ - التّمليك‏:‏

6 - التّمليك‏:‏ نقل الملك وإزالته إلى مالكٍ آخر، سواءٌ أكان المنقول عيناً كما في البيع، أم منفعةً كما في الإجارة، وسواءٌ أكان بعوضٍ كما سبق، أم بدونه كالهبة‏.‏ والتّمليك بعمومه يفارق الإسقاط بعمومه، إذ التّمليك إزالةٌ ونقلٌ إلى مالكٍ، في حين أنّ الإسقاط إزالةٌ وليس نقلاً، كما أنّه ليس إلى مالكٍ، لكنّهما قد يجتمعان في الإبراء من الدّين، عند من يعتبره تمليكاً، كالمالكيّة وبعض فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة، ولذلك يشترطون فيه القبول‏.‏

صفة الإسقاط‏:‏ حكمه التّكليفي

7 - الإسقاط من التّصرّفات المشروعة في الجملة، إذ هو تصرّف الإنسان في خالص حقّه، دون أن يمسّ ذلك حقّاً لغيره‏.‏ والأصل فيه الإباحة، وقد تعرض له الأحكام التّكليفيّة الأخرى‏.‏ فيكون واجباً، كترك وليّ الصّغير الشّفعة الّتي وجبت للصّغير، إذا كان الحظّ في تركها، لأنّه يجب عليه النّظر في ماله بما فيه حظٌّ وغبطةٌ له‏.‏ وكالطّلاق الّذي يراه الحكمان إذا وقع الشّقاق بين الزّوجين، وكذلك طلاق الرّجل إذا آلى من زوجته ولم يفئ إليها‏.‏

ويكون مندوباً إذا كان قربةً، كالعفو عن القصاص، وإبراء المعسر، والعتق، والكتابة‏.‏ ومن النّصوص الدّالّة على النّدب في العفو عن القصاص قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجروح قصاصٌ، فمن تصدّق به فهو كفّارةٌ له‏}‏‏.‏ فندب اللّه تعالى إلى العفو والتّصدّق بحقّ القصاص‏.‏‏.‏ وفي إبراء المدين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصدّقوا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ يقول القرطبيّ‏:‏ ندب اللّه تعالى بهذه الألفاظ إلى الصّدقة على المعسر، وجعل ذلك خيراً من إنظاره‏.‏، ولذلك يقول الفقهاء‏:‏ إنّ المندوب هنا وهو الإبراء أفضل من الواجب وهو الإنظار‏.‏ وقد يكون حراماً، كطلاق البدعة، وهو طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حملٍ، وكذلك عفو وليّ الصّغير عن القصاص مجّاناً‏.‏

وقد يكون مكروهاً، كالطّلاق بدون سببٍ يستدعيه،

لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبغض الحلال إلى اللّه الطّلاق»‏.‏

الباعث على الإسقاط

8 - تصرّفات المكلّفين فيما يملكون التّصرّف فيه لا تأتي عفواً، بل تكون لها بواعث، قد تكون شرعيّةً، فيكون التّصرّف استجابةً لأوامر الشّرع، وقد تكون لمصالح شخصيّةٍ‏.‏ والإسقاط من التّصرّفات الّتي يتأتّى فيها الباعث الشّرعيّ والشّخصيّ‏.‏

فمن البواعث الشّرعيّة‏:‏

العمل على حرّيّة الإنسان الّتي هي الأصل لكلّ النّاس، وذلك العتق الّذي حثّ عليه الإسلام‏.‏ ومنها‏:‏ الإبقاء على الحياة، وذلك بإسقاط حقّ القصاص ممّن ثبت له هذا الحقّ‏.‏

ومنها‏:‏ معاونة المعسرين، وذلك بإسقاط الدّين عنهم إن وجد، وقد سبق ذكر النّصوص الدّالّة على مشروعيّة ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ إرادة نفع الجار، كما في وضع خشبه على جدار جاره وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبه في جداره» إلى غير ذلك ممّا لا يتّسع المقام لذكره‏.‏

أمّا البواعث الشّخصيّة‏:‏

فمنها‏:‏ رجاء حسن العشرة بين الزّوجين، ممّا يدعو الزّوجة إلى إبراء زوجها من المهر في نكاح التّفويض بعد الدّخول، أو إسقاط الزّوجة حقّها في القسم‏.‏

ومنها‏:‏ الإسراع في الحصول على الحرّيّة، وذلك كالمكاتب، إذا أسقط حقّه في الأجل في أداء المال المكاتب، عليه، فعجّل أداء النّجوم ‏(‏الأقساط‏)‏، فإنّ السّيّد يلزمه أخذ المال، لأنّ الأجل حقّ المكاتب فيسقط بإسقاطه كسائر الحقوق، حتّى لو أبى السّيّد أخذ المال جعله الإمام في بيت المال، وحكم بعتقه‏.‏

ومنها‏:‏ الانتفاع المادّيّ، كالخلع والعفو عن القصاص على مالٍ‏.‏

أركان الإسقاط

9 - ركن الإسقاط عند الحنفيّة هو الصّيغة فقط، ويزاد عليها عند غيرهم‏:‏ الطّرفان - المسقط وهو صاحب الحقّ، والمسقط عنه الّذي تقرّر الحقّ قبله - والمحلّ وهو الحقّ الّذي يرد عليه الإسقاط‏.‏ الصّيغة‏:‏

10 - ممّا هو معلومٌ أنّ الصّيغة تتكوّن من الإيجاب والقبول معاً في العقد، وهي هنا كذلك باتّفاقٍ في الجملة في الإسقاطات الّتي تقابل بعوضٍ كالطّلاق على مالٍ‏.‏

وفي غيرها اختلاف الفقهاء بالنّسبة للقبول على ما سيأتي‏.‏

الإيجاب في الصّيغة

11 - الإيجاب في الصّيغة، هو ما يدلّ على الإسقاط من قولٍ، أو ما يؤدّي معنى القول، من إشارةٍ مفهمةٍ أو كتابةٍ أو فعلٍ أو سكوتٍ‏.‏ ويلاحظ أنّ الإسقاطات قد ميّز بعضها بأسماءٍ خاصّةٍ تعرف بها، فإسقاط الحقّ عن الرّقّ عتقٌ، وعن استباحة البضع طلاقٌ، وعن القصاص عفوٌ، وعن الدّين إبراءٌ‏.‏ ولكلّ نوعٍ من هذه الإسقاطات صيغٌ خاصّةٌ سواءٌ أكانت صريحةً، أم كنايةً تحتاج إلى نيّةٍ أو قرينةٍ‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏طلاقٌ، عتقٌ‏)‏‏.‏

أمّا غير هذه الأنواع من الإسقاطات، فإنّ حقيقة اللّفظ الّذي يدلّ عليها هو الإسقاط‏.‏ وما بمعناه‏.‏ وقد ذكر الفقهاء ألفاظاً متعدّدةً تؤدّي معنى الإسقاط، وذلك مثل‏:‏ التّرك والحطّ والعفو والوضع والإبراء في براءة الإسقاط والإبطال والإحلال، والمدار في ذلك على العرف ودلالة الحال، ولذلك جعلوا من الألفاظ الّتي تدلّ عليه‏:‏ الهبة والصّدقة والعطيّة حين لا يراد بهذه الألفاظ حقيقتها وهي التّمليك، ويكون المقام دالاًّ على الإسقاط، ففي شرح منتهى الإرادات‏:‏ من أبرأ من دينه، أو وهبه لمدينه، أو أحلّه منه، أو أسقطه عنه، أو تركه له، أو ملّكه له، أو تصدّق به عليه، أو عفا عن الدّين، صحّ ذلك جميعه، وكان مسقطاً للدّين‏.‏ وإنّما صحّ بلفظ الهبة والصّدقة والعطيّة، لأنّه لمّا لم يكن هناك عينٌ موجودةٌ يتناولها اللّفظ انصرف إلى معنى الإبراء‏.‏ قال الحارثيّ‏:‏ ولهذا لو وهبه دينه هبةً حقيقيّةً لم يصحّ، لانتفاء معنى الإسقاط وانتفاء شرط الهبة‏.‏ وكما يحصل الإسقاط بالقول، فإنّه يحصل بالكتابة المعنونة المرسومة، وبالإشارة المفهمة من فاقد النّطق‏.‏

كذلك قد يحصل الإسقاط بالسّكوت، كما إذا علم الشّفيع ببيع المشفوع فيه، وسكت مع إمكان الطّلب، فإنّ سكوته يسقط حقّه في طلب الشّفعة‏.‏ ويحصل الإسقاط أيضاً نتيجة فعلٍ يصدر من صاحب الحقّ، كمن يشتري بشرط الخيار، ثمّ يتصرّف في المبيع بوقفٍ أو بيعٍ في زمن الخيار، فإنّ هذا التّصرّف يعتبر إسقاطاً لحقّه في الخيار‏.‏

القبول

12 - الأصل في الإسقاط أن يتمّ بإرادة المسقط وحده، لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه، ما دام لم يمسّ حقّ غيره‏.‏

ومن هنا فإنّ الفقهاء يتّفقون على أنّ الإسقاط المحض الّذي ليس فيه معنى التّمليك، والّذي لم يقابل بعوضٍ، يتمّ بصدور ما يحقّق معناه من قولٍ، أو ما يؤدّي معناه دون توقّفٍ على قبول الطّرف الآخر، كالطّلاق، فلا يحتاج الطّلاق إلى قبولٍ‏.‏

13 - ويتّفقون كذلك على أنّ الإسقاط الّذي يقابل بعوضٍ يتوقّف نفاذه على قبول الطّرف الآخر في الجملة، كالطّلاق على مالٍ، لأنّ الإسقاط حينئذٍ يكون معاوضةً، فيتوقّف ثبوت الحكم على قبول دفع العوض من الطّرف الآخر، إذ المعاوضة لا تتمّ إلاّ برضى الطّرفين‏.‏ وقد ألحق الحنفيّة بهذا القسم الصّلح على دم العمد، فإنّ الحكم فيه يتوقّف على رضى الجاني، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ‏}‏ والمراد به الصّلح‏.‏ ولأنّه حقٌّ ثابتٌ للورثة يجري فيه الإسقاط عفواً، فكذا تعويضاً، لاشتماله على إحسان الأولياء وإحياء القاتل، فيجوز بالتّراضي‏.‏

وما ذهب إليه الحنفيّة هو قولٌ للإمام مالكٍ وبعض أصحابه‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة، وفي قولٍ آخر للإمام مالكٍ أنّ من له حقّ القصاص، إذا أراد أخذ الدّية بدل القصاص، فله ذلك من غير رضى الجاني، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ‏}‏ ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «قام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ من قتل له قتيلٌ فهو بخير النّظرين، إمّا أن يودى، وإمّا أن يقاد»‏.‏ وبهذا قال سعيد بن المسيّب وابن سيرين وعطاءٌ ومجاهدٌ وأبو ثورٍ وابن المنذر‏.‏

14 - ويبقى بعد ذلك الإسقاط الّذي فيه معنى التّمليك، كإبراء المدين من الدّين‏.‏

وهذا النّوع من الإسقاط هو الّذي اختلف فيه الفقهاء على أساس ما فيه من جانبي الإسقاط والتّمليك‏.‏ فالحنفيّة، والشّافعيّة في الأصحّ، والحنابلة وأشهب من المالكيّة، نظروا إلى جانب الإسقاط فيه، فلا يتوقّف تمامه عندهم على القبول، لأنّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه أو بعضه‏.‏ ولأنّه إسقاط حقٍّ ليس فيه تمليك مالٍ، فلم يعتبر فيه القبول، كالعتق والطّلاق والشّفعة‏.‏ بل إنّ الخطيب الشّربينيّ قال‏:‏ لا يشترط القبول على المذهب، سواءٌ قلنا‏:‏ الإبراء تمليكٌ أو إسقاطٌ‏.‏ ويستوي عند هؤلاء الفقهاء التّعبير بالإبراء أو بهبة الدّين للمدين، إلاّ ما فرّق به بعض الحنفيّة من أنّ التّعبير بالهبة يحتاج إلى القبول‏.‏ جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ هبة الدّين من الكفيل لا تتمّ بدون القبول، وإبراؤه يتمّ بدون قبولٍ‏.‏

15 - ولمّا كان الإبراء من بدل الصّرف ورأس مال السّلم يتوقّف على القبول عند الحنفيّة، ممّا يشعر بالتّعارض مع رأيهم في عدم توقّف الإبراء من الدّين على القبول، فقد علّلوا ذلك بأنّ التّوقّف على القبول فيهما ليس من جهة أنّه هبة الدّين للمدين، ولكن لأنّ الإبراء فيهما يوجب انفساخ العقد بفوات القبض المستحقّ بالعقد لحقّ الشّارع، وأحد العاقدين لا ينفرد بفسخه، فلهذا توقّف على قبول الآخر‏.‏ والأرجح عند المالكيّة، وعند بعض الشّافعيّة أنّ إبراء المدين من الدّين يتوقّف تمامه على القبول، لأنّ الإبراء - على رأيهم - نقلٌ للملك، فهو تمليك المدين ما في ذمّته، فيكون من قبيل الهبة الّتي يشترط فيها القبول‏.‏

والحكمة في ذلك عندهم هي ترفّع ذوي المروءات عمّا قد يحدث في الإبراء من منّةٍ، وما قد يصيبهم من ضررٍ بذلك، لا سيّما من السّفلة، فكان لهم الرّفض شرعاً، نفياً للضّرر الحاصل من المنن من غير أهلها، أو من غير حاجةٍ‏.‏

ردّ الإسقاط

16 - لا يختلف الفقهاء في أنّ الإسقاطات المحضة الّتي ليس فيها معنى التّمليك، والّتي لم تقابل بعوضٍ، كالعتق والطّلاق والشّفعة والقصاص لا ترتدّ بالرّدّ، لأنّها لا تفتقر إلى القبول، وبالإسقاط يسقط الملك والحقّ، فيتلاشى ولا يؤثّر فيه الرّدّ، والسّاقط لا يعود كما هو معلومٌ‏.‏ ولا يختلفون كذلك في أنّ الإسقاطات الّتي تقابل بعوضٍ، كالطّلاق والعتق على مالٍ، ترتدّ بالرّدّ ما لم يسبق قبولٌ أو طلبٌ‏.‏

17 - أمّا ما فيه معنى التّمليك كالإبراء من الدّين، فعند الحنفيّة والمالكيّة في الرّاجح عندهم، وهو رأي بعض الشّافعيّة، أنّه يرتدّ بالرّدّ، نظراً لجانب التّمليك فيه، ولما قد يترتّب على عدم قابليّته للرّدّ من ضرر المنّة الّتي يترفّع عنها ذوو المروءات‏.‏

18 - هذا مع استثناء الحنفيّة لبعض المسائل الّتي لا يرتدّ فيها الإبراء بالرّدّ وهي‏:‏

أ - إذا أبرأ المحال المحال عليه فلا يرتدّ بردّه‏.‏

ب - إذا أبرأ الطّالب الكفيل فالأرجح أنّه لا يرتدّ بالرّدّ، وقيل يرتدّ‏.‏

ج - إذا طلب المدين الإبراء فأبرأه الدّائن فلا يرتدّ بالرّدّ‏.‏

د - إذا قبل المدين الإبراء ثمّ ردّه لا يرتدّ‏.‏

وهذه المسائل في الحقيقة ليست خروجاً على الأصل الّذي سار عليه الحنفيّة، ذلك أنّ الحوالة والكفالة من الإسقاطات المحضة، لأنّ الواجب هو حقّ المطالبة وليس فيه تمليك مالٍ‏.‏ وأمّا القبول إذا تمّ فلا معنى للرّدّ بعده، وكذلك طلب المدين البراءة يعتبر قبولاً‏.‏

19 - ومع اتّفاق الحنفيّة على أنّ الإبراء يرتدّ بالرّدّ إلاّ أنّهم يختلفون من حيث تقييد الرّدّ بمجلس الإبراء وعدم تقييده‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ هما قولان‏.‏ وفي الفتاوى الصّيرفيّة‏:‏ لو لم يقبل ولم يردّ حتّى افترقا، ثمّ بعد أيّامٍ ردّ لا يرتدّ في الصّحيح‏.‏

التّعليق والتّقييد والإضافة في الإسقاطات

20 - التّعليق هو ربط وجود الشّيء بوجود غيره، ويستعمل فيه لفظ أداة الشّرط صريحاً، كإن وإذا، وانعقاد الحكم فيه يتوقّف على حصول الشّرط‏.‏

21 - والتّقييد بالشّروط ما جزم فيه بالأصل، وشرط فيه أمرٌ آخر، ولا يستعمل فيه لفظ أداة الشّرط صريحاً‏.‏

22 - أمّا الإضافة فهي وإن كانت لا تمنع سببيّة اللّفظ للحكم إلاّ أنّها تجعل الحكم يتأخّر البدء به إلى زمنٍ مستقبلٍ يحدّده المتصرّف‏.‏

وبيان ذلك بالنّسبة للإسقاطات هو‏:‏

أوّلاً‏:‏ تعليق الإسقاط على الشّرط‏:‏

23 - يجوز باتّفاق الفقهاء تعليق الإسقاطات على الشّرط الكائن بالفعل ‏(‏أي الموجود حالة الإسقاط‏)‏، لأنّه في حكم المنجز، كقول الدّائن لغريمه‏:‏ إن كان لي عليك دينٌ فقد أبرأتك، وكقول الرّجل لامرأته‏:‏ أنت طالقٌ إن كانت السّماء فوقنا والأرض تحتنا، وكمن قال لآخر‏:‏ باعني فلانٌ دارك بكذا، فقال‏:‏ إن كان كذا فقد أجزته، وإن كان فلانٌ اشترى هذا الشّقص بكذا فقد أسقطت الشّفعة‏.‏ كذلك يجوز باتّفاق الفقهاء التّعليق على موت المسقط، ويعتبر وصيّةً، كقوله لمدينه‏:‏ إذا متّ فأنت بريءٌ‏.‏ وهذا فيما عدا من علّق طلاق زوجته على موته، إذ فيه الاختلاف بين تنجيز الطّلاق وبين عدم وقوعه‏.‏

أمّا فيما عدا ذلك من الشّروط فيمكن تقسيم الإسقاطات بالنّسبة لها في الجملة إلى الآتي‏:‏

24 - أ - إسقاطاتٌ محضةٌ ليس فيها معنى التّمليك ولم تقابل بعوضٍ‏.‏ وهذه يجوز في الجملة تعليقها على الشّرط، غير أنّ الحنفيّة وضعوا هنا ضابطاً فقالوا‏:‏ إن كانت الإسقاطات ممّا يحلف بها، كالطّلاق والعتق، فإنّه يجوز تعليقها بالشّرط ملائماً أم غير ملائمٍ‏.‏ وإن كانت ممّا لا يحلف بها، كالإذن في التّجارة وتسليم الشّفعة، فإنّه يجوز تعليقها بالشّرط الملائم فقط، وهو ما يؤكّد موجب العقد‏.‏

ويعبّر الحنفيّة أحياناً بالشّرط المتعارف‏.‏ ويظهر أنّ المراد بهما واحدٌ، ففي ابن عابدين‏:‏ وفي البحر عن المعراج‏:‏ غير الملائم هو ما لا منفعة فيه للطّالب أصلاً، كدخول الدّار ومجيء الغد، لأنّه غير متعارفٍ‏.‏ وفي فتح القدير - بعد الكلام عن اختلاف الرّوايات في جواز تعليق البراءة من الكفالة بالشّرط - قال‏:‏ وجه اختلاف الرّوايتين أنّ عدم الجواز إنّما هو إذا كان الشّرط محضاً لا منفعة فيه أصلاً، لأنّه غير متعارفٍ بين النّاس، كما لا يجوز تعليق الكفالة بشرطٍ ليس للنّاس فيه تعاملٌ، فأمّا إذا كان بشرطٍ فيه نفعٌ للطّالب، وله تعاملٌ، فتعليق البراءة به صحيحٌ‏.‏ ولم يتعرّض غير الحنفيّة لهذا التّقسيم، والّذي يبدو ممّا ذكروه أنّه يجوز عندهم تعليق الإسقاطات المحضة على الشّرط مطلقاً، دون تفريقٍ بين ما يحلف به وما لا يحلف به، ويدلّ لذلك الضّابط الّذي وضعه الشّافعيّة وهو‏:‏ ما كان تمليكاً محضاً لا مدخل للتّعليق فيه قطعاً كالبيع، وما كان حلاًّ محضاً، يدخله التّعليق قطعاً كالعتق، وبينهما مراتب يجري فيها الخلاف كالفسخ والإبراء‏.‏ وأمّا المالكيّة والحنابلة فإنّ المسائل الّتي ذكروا أنّها تقبل التّعليق تفيد هذا المعنى‏.‏ وقد ورد الكثير من هذه المسائل في فتاوى الشّيخ عليشٍ المالكيّ، ومنها‏:‏ إذا طلبت الحاضنة الانتقال بالأولاد إلى مكان بعيدٍ، فقال الأب‏:‏ إن فعلت ذلك فنفقتهم وكسوتهم عليك، لزمها ذلك، لأنّ للأب منعها من الخروج بهم إلى مكان بعيدٍ، فأسقط حقّه بذلك‏.‏ وإذا قال الشّفيع‏:‏ إن اشتريت ذلك الشّقص فقد سلّمت لك شفعتي على دينارٍ تعطيني إيّاه، فإن لم يبعه منك فلا جعل لي عليك، جاز ذلك‏.‏

25 - ب - إسقاطاتٌ فيها معنى المعاوضة، كالخلع والمكاتبة‏.‏ وما يلحق بهما من الطّلاق والعتق على مالٍ‏.‏ فالطّلاق على مالٍ وكذا العتق على مالٍ تعليقهما جائزٌ باتّفاقٍ، لأنّهما إسقاطٌ محضٌ، والمعاوضة فيهما معدولٌ بها عن سائر المعاوضات‏.‏

وأمّا الخلع فقد أجاز تعليقه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في الصّحيح، باعتباره طلاقاً، ومنعه الحنابلة لمعنى المعاوضة‏.‏

وأمّا المكاتبة فقد أجاز تعليقها بالشّرط الحنفيّة والمالكيّة، ومنعها الحنابلة والشّافعيّة، جاء في قواعد الزّركشيّ‏:‏ المعاوضة غير المحضة وهي الّتي يكون المال فيها مقصوداً من جانبٍ واحدٍ ‏(‏أي كالمكاتبة‏)‏ لا تقبل التّعليق، إلاّ في الخلع من جانب المرأة‏.‏

26 - ج - الإسقاط الّذي فيه معنى التّمليك، كالإبراء من الدّين‏.‏ وقد أجاز تعليقه على الشّرط الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ غير أنّ الحنفيّة قيّدوه بالشّرط الملائم أو المتعارف على ما سبق تفسيره‏.‏ ومنع تعليقة الحنابلة والشّافعيّة في الأصحّ‏.‏

وقد استثنى الشّافعيّة ثلاث صورٍ يجوز فيها التّعليق، وهي‏:‏

‏(‏1‏)‏ لو قال‏:‏ إن رددت ضالّتي فقد أبرأتك عن الدّين الّذي لي عليك صحّ‏.‏

‏(‏2‏)‏ تعليق الإبراء ضمناً، كما إذا علّق عتق عبده، ثمّ كاتبه فوجدت الصّفة، عتق، وتضمّن ذلك الإبراء من النّجوم ‏(‏أي الأقساط‏)‏‏.‏

‏(‏3‏)‏ البراءة المعلّقة بموت المبرّئ، وقد سبق بيان ذلك‏.‏

ثانياً‏:‏ تقييد الإسقاط بالشّرط‏:‏

27 - يصحّ في الجملة تقييد الإسقاطات بالشّروط، فإن كان الشّرط صحيحاً لزم، وإن كان الشّرط فاسداً فلكلّ مذهبٍ تفصيلٌ في الحكم على ما يعتبر فاسداً من الشّروط وما لا يعتبر، وهل يبطل التّصرّف بفساد الشّرط، أو يبطل الشّرط ويصحّ التّصرّف‏.‏ ونترك التّفاصيل لمواضعها‏.‏ لكنّ الحكم الغالب في الإسقاطات أنّها لو قيّدت بالشّرط الفاسد، صحّ وبطل الشّرط‏.‏ ويتبيّن هذا ممّا ذكره بعض الفقهاء من الضّوابط، ومن الفروع الّتي أوردها غيرهم، وفيما يلي بيان ذلك‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ كلّ ما جاز تعليقه بالشّرط يجوز تقييده بالشّرط، ولا يفسد بالشّرط، الفاسد‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ ما ليس مبادلة مالٍ بمالٍ لا يفسد بالشّرط الفاسد‏.‏ وذكر صاحب الدّرّ وابن عابدين التّصرّفات الّتي تصحّ ولا تفسد بالشّرط الفاسد، ومنها‏:‏ الطّلاق والخلع والعتق والإيصاء والشّركة والمضاربة والكفالة والحوالة والوكالة والكتابة والإذن في التّجارة والصّلح عن دم العمد والإبراء عنه‏.‏ أمّا المالكيّة والشّافعيّة فلم يربطوا بين التّعليق والتّقييد، فقد ذكر القرافيّ في الفروق أنّ ما يقبل الشّرط والتّعليق‏:‏ الطّلاق والعتق، ولا يلزم من قبول التّعليق قبول الشّرط، ولا من قبول الشّرط قبول التّعليق، وتطلب المناسبة في كلّ بابٍ من أبواب الفقه‏.‏ ومن الأمثلة الّتي وردت عندهم‏:‏ لو خالعت زوجها واشترطت الرّجعة، لزم الخلع، وبطل الشّرط‏.‏ ولو صالح الجاني وليّ الدّم على شيءٍ بشرط أن يرحل من البلد، فقال ابن كنانة‏:‏ الشّرط باطلٌ والصّلح جائزٌ، وقال ابن القاسم‏:‏ لا يجوز الصّلح، وقال المغيرة‏:‏ الشّرط جائزٌ والصّلح لازمٌ، وكان سحنونٌ يعجبه قول المغيرة‏.‏

ويقول الشّافعيّة‏:‏ الشّرط الفاسد قد يترتّب عليه بعض أحكام الصّحيح، ومثل ذلك في الإسقاطات الكتابة والخلع‏.‏ وممّا قاله الحنابلة في ذلك‏:‏ إذا قيّد الخلع بشرطٍ فاسدٍ صحّ الخلع ولغا الشّرط‏.‏ وفي المغني‏:‏ العتق والطّلاق لا تبطلهما الشّروط الفاسدة‏.‏

ثالثاً‏:‏ إضافة الإسقاط إلى الزّمن المستقبل‏:‏

28 - من التّصرّفات ما يظهر أثرها ويترتّب عليها الحكم بمجرّد تمّام الصّيغة، ولا تقبل إرجاء حكمها إلى زمنٍ آخر كالزّواج والبيع‏.‏ ومن التّصرّفات ما تكون طبيعتها تمنع ظهور أثرها إلاّ في زمنٍ مستقبلٍ، كالوصيّة‏.‏ ومن التّصرّفات ما يقع حكمه منجزاً، كالطّلاق تنتهي به الزّوجيّة في الحال، ويصحّ أن يضاف إلى زمنٍ مستقبلٍ لا تنتهي الزّوجيّة إلاّ عند حصوله‏.‏ وإضافة الطّلاق إلى الزّمن المستقبل جائزٌ عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وهو منجزٌ عند المالكيّة ولو أضافه إلى المستقبل، لأنّه بهذه الإضافة أشبه بنكاح المتعة‏.‏ وكذلك العتق فإنّه إسقاطٌ يقبل الإضافة‏.‏ وممّا ذكره الحنفيّة من الإسقاطات الّتي لا تقبل الإضافة إلى زمن مستقبلٍ‏:‏ الإبراء من الدّين وإسقاط القصاص‏.‏ والحكم الغالب أنّ الإسقاطات الّتي ليس فيها معنى التّمليك تقبل الإضافة إلى الزّمن المستقبل‏.‏ هذا في الجملة، ولكلّ مذهبٍ تفصيلٌ في كلّ نوعٍ من أنواع التّصرّفات، وينظر في موضعه‏.‏

من يملك الإسقاط ‏(‏المسقط‏)‏

29 - الإسقاط قد يكون من قبل الشّرع أساساً، كإسقاط العبادات الّتي يكون في مباشرتها مشقّةٌ وحرجٌ على المكلّف، وكإسقاط العقوبات الّتي ترد عليها شبهةٌ، وسيأتي بيان ذلك‏.‏ وقد يكون الإسقاط من قبل العباد نتيجةً لأمر الشّارع، إمّا على سبيل الوجوب كالعتق في الكفّارات، وإمّا على سبيل النّدب كإبراء المعسر من الدّين، وكالعفو عن القصاص‏.‏

وقد يكون الإسقاط من العباد بعضهم لبعضٍ لأسبابٍ خاصّةٍ، كإسقاط حقّ الشّفعة لعدم الرّغبة في الشّراء‏.‏ على ما سبق بيانه في الحكم التّكليفيّ‏.‏

ما يشترط في المسقط

30 - الإسقاط من العباد يعتبر من التّصرّفات الّتي يتنازل فيها الإنسان عن حقّه، فهو في حقيقته تبرّعٌ‏.‏ ولمّا كان هذا التّصرّف قد يعود على المسقط بالضّرر، فإنّه يشترط أهليّته للتّبرّع، وذلك بأن يكون بالغاً عاقلاً‏.‏ فلا يصحّ الإسقاط من الصّبيّ والمجنون وهذا في الجملة، لأنّ الحنابلة يقولون بصحّة الخلع من الصّغير الّذي يعقله، لأنّ فيه تحصيل عوضٍ له‏.‏ ويشترط كذلك أن يكون غير محجورٍ عليه لسفهٍ أو دينٍ، وهذا بالنّسبة للتّبرّعات، لأنّه يجوز أن يطلّق وأن يعفو عن القصاص وأن يخالع، لكن لا يدفع إليه المال، ولذلك لا يصحّ الخلع من الزّوجة المحجور عليها لسفهٍ أو صغرٍ، مع ملاحظة أنّه لا يحجر على السّفيه، ولا على المدين عند أبي حنيفة‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏حجرٌ، وسفهٌ، وأهليّةٌ‏)‏‏.‏

ويشترط أيضاً أن يكون ذا إرادةٍ، فلا يصحّ إسقاط المكره، إلاّ ما قاله الحنفيّة من صحّة الطّلاق والعتق من المكره‏.‏ وللفقهاء تفصيلٌ بين الإكراه الملجئ وغير الملجئ‏.‏ وينظر في ‏(‏إكراهٌ‏)‏‏.‏ ويشترط أن يكون في حال الصّحّة، إذا كان إسقاطه لكلّ ماله أو أكثر من الثّلث، فإن كان مريضاً مرض الموت وقت الإسقاط فتصرّفه فيما زاد على الثّلث للأجنبيّ، أو بأقلّ للوارث، يتوقّف على إجازة الورثة‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏وصيّةٌ‏)‏‏.‏

وإذا كان المريض مديناً والتّركة مستغرقةٌ بالدّيون فلا يصحّ منه الإبراء، لتعلّق حقّ الغرماء‏.‏ ويشترط أن يكون مالكاً لما يتصرّف فيه‏.‏ وفي تصرّف الفضوليّ خلافٌ بين من يجيزه موقوفاً على إجازة المالك، وهم الحنفيّة والمالكيّة، وبين من لا يجيزه وهم الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ موضعه مصطلح ‏(‏فضوليٌّ‏)‏‏.‏

وقد يكون ملك التّصرّف بالوكالة، وحينئذٍ يجب أن يقتصر التّصرّف على المأذون به للوكيل‏.‏ وعلى الجملة فإنّه يصحّ التّوكيل بالخلع، وبالإعتاق على مالٍ، وبالصّلح على الإنكار، وفي إبراءٍ من الدّين ولو للوكيل، إذا عيّنه الموكّل وقال له‏:‏ أبرئ نفسك‏.‏ ويراعى في كلّ ذلك ما يشترط في الموكّل والوكيل وما أذن فيه‏.‏ وينظر تفصيله في ‏(‏وكالةٌ‏)‏‏.‏ وقد يكون ملك التّصرّف بالولاية الشّرعيّة كالوليّ والوصيّ، وحينئذٍ يجب أن يقتصر تصرّفهما على ما فيه الحظّ للصّغير والمولّى عليه، فلا يجوز له التّبرّع ولا إسقاط المهر ولا العفو على غير مالٍ ولا ترك الشّفعة إذا كان في التّرك ضررٌ‏.‏ وهذا في الجملة ‏(‏ر‏:‏ وصايةٌ ولايةٌ‏)‏‏.‏

المسقط عنه

31 - المسقط عنه هو من كان عليه الحقّ أو تقرّر قبله، ويشترط فيه أن يكون معلوماً في الجملة‏.‏ هذا، وأغلب الإسقاطات يكون المسقط عنه أو له معروفاً، كما في الشّفعة والقصاص والخيار وما شابه ذلك‏.‏ وإنّما نتصوّر الجهالة في إبراء المدين وفي الإعتاق والطّلاق وما أشبه ذلك‏.‏ أمّا الإبراء من الدّين فيشترط فيه أن يكون المبرّأ معلوماً، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ ولذلك لو قال‏:‏ أبرأت شخصاً أو رجلاً ممّا لي قبله لا يصحّ‏.‏ ومثله ما لو قال‏:‏ أبرأت أحدً غريميّ، أمّا لو قال‏:‏ أبرأت أهالي المحلّة الفلانيّة، وكان أهل تلك المحلّة معيّنين، وعبارةً عن أشخاصٍ معدودين، فإنّه يصحّ الإبراء‏.‏

كذلك يشترط أن يكون الإبراء لمن عليه الحقّ، فلو أبرئ غير من عليه الحقّ لا يصحّ، ومثال ذلك‏:‏ إذا أبرئ قاتلٌ من ديةٍ واجبةٍ على عاقلته، فلا يصحّ الإبراء في ذلك، لوقوعه على غير من عليه الحقّ‏.‏ أمّا لو أبرئت عاقلة القاتل، أو قال المجنيّ عليه‏:‏ عفوت عن هذه الجناية، ولم يسمّ المبرّأ من قاتلٍ أو عاقلةٍ صحّ الإبراء، لانصرافه إلى من عليه الحقّ‏.‏ ولا يشترط في الإبراء من الدّين أن يكون المبرّأ مقرّاً بالحقّ، حيث يجوز الإبراء من الإنكار‏.‏ ومثل ذلك يقال في غير الدّين ممّا يصحّ إسقاطه‏.‏

وأمّا بالنّسبة للطّلاق فإنّه يصحّ مع الإبهام، لكن لا بدّ من التّعيين، فمن قال لزوجتيه‏:‏ إحداكما طالقٌ، فإنّ الطّلاق يقع، ولكنّه يلزم بتعيين المطلّقة‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة، أمّا عند المالكيّة فالمشهور أنّهما تطلقان، وهو قول المصريّين، وقال المدنيّون‏:‏ يختار واحدةً للطّلاق‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ يقرع بينهما إن لم يكن نوى واحدةً بعينها‏.‏

محلّ الإسقاط

32 - المحلّ الّذي يجري عليه التّصرّف يسمّى حقّاً، وهو بهذا الإطلاق العامّ يشمل الأعيان، ومنافعها، والدّيون، والحقوق المطلقة‏.‏ وكلّ من ملك حقّاً من هذه الحقوق - بهذا الإطلاق العامّ - يصبح له بحكم الملك ولاية التّصرّف فيه باختياره، ليس لأحدٍ ولاية الجبر عليه إلاّ لضرورةٍ أو لمصلحةٍ عامّةٍ، ولا لأحدٍ ولاية المنع عنه إلاّ إذا تعلّق به حقّ الغير، فيمنع عن التّصرّف من غير رضى صاحب الحقّ‏.‏

والإسقاط من هذه التّصرّفات، إلاّ أنّه ليس كلّ محلٍّ قابلاً للإسقاط، بل منه ما يقبل الإسقاط لتوفّر شروطه، ومنه ما لا يقبله لعدم تحقّق شروطه، ككونه مجهولاً، أو تعلّق به حقٌّ للغير وهكذا‏.‏ وبيان ذلك فيما يلي‏:‏

ما يقبل الإسقاط

أوّلاً - الدّين

33 - يصحّ باتّفاقٍ إسقاط الدّين الثّابت في الذّمّة، لأنّه حقٌّ، والحقوق تسقط بالإسقاط، فكلّ من ثبت له دينٌ على غيره، سواءٌ أكان ثمن مبيعٍ، أم كان مسلماً فيه، أم نفقةً مفروضةً ماضيةً للزّوجة، أم غير ذلك، فإنّه يجوز له إسقاطه‏.‏ وسواءٌ أكان الإسقاط خاصّاً بدينٍ أم عامّاً لكلّ الدّين، وسواءٌ أكان مطلقاً أم معلّقاً أم مقيّداً بشرطٍ على ما سبق بيانه‏.‏ وكما يجوز الإبراء عن كلّ الدّين فإنّه يجوز الإبراء عن بعضه‏.‏

وكما يصحّ إسقاط الدّين بدون عوضٍ، يصحّ إسقاطه نظير عوضٍ، مع الاختلاف في الصّورة أو الكيفيّة الّتي يتمّ بها ذلك، ومن هذه الصّور‏:‏

أ - أن يعطي المدين الدّائن ثوباً في مقابلة إبرائه ممّا عليه من الدّين، فيملك الدّائن العوض المبذول له نظير الإبراء ويبرّأ المدين، وذلك كما يقول الشّافعيّة‏.‏

ب - يقول الحنابلة‏:‏ من وجبت عليه نفقة امرأته، وكان له عليها دينٌ، فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها، فإن كانت موسرةً فله ذلك، لأنّ من عليه حقٌّ فله أن يقضيه من أيّ أمواله شاء، وهذا من ماله‏.‏

ويظهر أنّ هذه الصّورة تعتبر من قبيل المقاصّة، والمقاصّة بالتّراضي تعتبر إسقاطاً بعوضٍ من الجانبين‏.‏ مع مراعاة شروطها من اتّحاد الدّين قدراً ووصفاً وغير ذلك من الشّروط‏.‏

ت - كذلك يأتي إسقاط الدّين نظير عوض صورة الصّلح‏.‏ وقد قسّم القرافيّ الإسقاط إلى قسمين‏:‏ بعوضٍ وبغيره، وجعل من الإسقاط بعوضٍ الصّلح عن الدّين‏.‏

ث - في حاشية ابن عابدين‏:‏ إذا أبرأت الزّوجة زوجها من المهر والنّفقة ليطلّقها، صحّ الإبراء، ويكون بعوضٍ، وهو أنّه ملّكها نفسها‏.‏

ج - وقد يأتي إسقاط الدّين بعوضٍ في صور التّعليق، كمن قال لغيره‏:‏ إن أعطيتني سيّارتك أسقطت عنك الدّين الّذي لي عليك‏.‏

ح - والإبراء أيضاً في صورة الخلع يعتبر من قبيل العوض‏.‏

ثانياً‏:‏ العين

34 - الأصل أنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط، على ما سيأتي بيانه فيما لا يقبل الإسقاط، إلاّ أنّ بعض التّصرّفات تعتبر إسقاطاً للملك‏.‏ وذلك كالعتق، فإنّه يعتبر إسقاطاً لملك الرّقبة وهي عينٌ‏.‏ والعتق مشروعٌ بل مندوبٌ إليه شرعاً، وقد يكون واجباً كما في الكفّارات‏.‏

كذلك الوقف يعتبر إسقاطاً للملك عند بعض الفقهاء، ففي قواعد المقري‏:‏ وقف المساجد إسقاط ملكٍ إجماعاً، وفي غيرها قولان‏.‏

وقد يأتي إسقاط العين نظير عوضٍ عمّن عقد الصّلح، والصّلح جائزٌ شرعاً لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الصّلح جائزٌ بين المسلمين إلاّ صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً»‏.‏ وسواءٌ أكان عن إقرارٍ، أم عن إنكارٍ، أم سكوتٍ، فإن كان عن إنكارٍ أو سكوتٍ فهو في حقّ المدّعي معاوضة حقّه في زعمه، وهذا مشروعٌ، في حقّ المدّعى عليه افتداء اليمين ودفع الخصومة وهذا مشروعٌ‏.‏ بل إنّ بعض الحنابلة أجاز الصّلح عمّا تعذّر علمه من دينٍ أو عينٍ بمالٍ لئلاّ يفضي إلى ضياع المال‏.‏

ويلاحظ أنّ الشّافعيّة لا يجيزون الصّلح عن إنكارٍ‏.‏ وإن كان الصّلح عن إقرارٍ اعتبر كالبيع، إن كان مبادلة مالٍ بمالٍ، أو كالإجارة إن كان مبادلة مالٍ بمنفعةٍ، أو كالهبة إن كان على ترك بعض العين‏.‏ ويعتبر في كلّ حالٍ شروطها‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏صلحٌ‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ المنفعة‏:‏

35 - المنافع حقوقٌ تثبت لمستحقّيها، سواءٌ أكانت نتيجة ملك العين المنتفع بها، أم كانت نتيجة ملك المنفعة دون الرّقبة ‏(‏أي العين‏)‏ بمقتضى عقدٍ، كالإجارة والعاريّة والوصيّة بالمنفعة، أو بغير عقدٍ، كتحجير الموات لإحيائه، والاختصاص بمقاعد الأسواق، وما شابه ذلك‏.‏ والأصل في المنافع أنّها تقبل الإسقاط بإسقاط مالك العين المنتفع بها أو مستحقّ منفعتها، إذ كلّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه، ما لم يكن هناك مانعٌ من ذلك‏.‏ وهذا باتّفاقٍ‏.‏ وصور ذلك كثيرةٌ في مسائل الفقه ومن أمثلتها‏:‏

أ - من أوصى لرجلٍ بسكنى داره، فمات الموصي، وباع الوارث الدّار، ورضي به الموصى له، جاز البيع وبطلت سكناه‏.‏

ب - من وصّى بعين دار لزيدٍ، وبالمنفعة لعمرٍو، فأسقط الموصى له بالمنفعة حقّه، سقط بالإسقاط‏.‏

ج - من كان له مسيل ماءٍ في دار غيره، فقال‏:‏ أبطلت حقّي في المسيل، فإن كان له حقّ إجراء الماء دون الرّقبة بطل حقّه قياساً على حقّ السّكنى‏.‏

د - يجوز إسقاط الحقّ في الانتفاع ببيوت المدارس الموقوفة على الوجه الّذي أسقطه صاحبه‏.‏

فإن أسقطه مدّةً مخصوصةً رجع إليه بعد انتهائها، وإن أطلق في الإسقاط فلا يعود له‏.‏

هـ- أماكن الجلوس في المساجد والأسواق يجوز إسقاط الحقّ فيها‏.‏

هذا بالنّسبة لإسقاط الحقّ في المنافع بدون عوضٍ‏.‏

36 - أمّا إسقاطه بعوضٍ، فإنّه يرجع إلى قاعدة التّفريق بين ملك المنفعة وملك الانتفاع، فإنّ الأصل أنّ كلّ من ملك المنفعة ملك المعاوضة عليها، ومن ملك الانتفاع بنفسه فقط فليس له المعاوضة عليه‏.‏ وعلى ذلك فكلّ من ملك المنفعة، سواءٌ أكان مالكاً للرّقبة، أم مالكاً للمنفعة دون الرّقبة، فإنّه يجوز له إسقاط حقّه في المنفعة والاعتياض عنه وهذا عند الجمهور‏.‏ أمّا الحنفيّة، فإنّ الاعتياض عن المنافع عندهم لا يجوز إلاّ لمالك الرّقبة والمنفعة، أو لمالك المنفعة بعوضٍ‏.‏ والمنافع ليست بأموالٍ عندهم‏.‏ وكذلك لا يجوز عندهم إفراد حقوق الارتفاق بعقد معاوضةٍ على الأصحّ، وإنّما يجوز تبعاً‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏إجارةٌ، ارتفاقٌ، إعارةٌ، وصيّةٌ، وقفٌ‏)‏‏.‏

37 - ومن الأمثلة على إسقاط الحقّ في المنافع بعوضٍ‏:‏ ما لو صالح الورثة من أوصى له مورّثهم بسكنى دارٍ معيّنةٍ من التّركة بدراهم مسمّاةٍ جاز ذلك صلحاً، لأنّه إسقاط حقٍّ، ومثل ذلك ما لو أنّ الموصى له بعين الدّار صالح الموصى له بسكناها بدراهم أو بمنفعة عينٍ أخرى لتسلّم الدّار له جاز‏.‏

رابعاً‏:‏ الحقّ المطلق‏:‏

38 - ينقسم الحقّ بحسب من يضاف إليه إلى الآتي‏:‏

- -حقٌّ خالصٌ للّه سبحانه وتعالى، وهو كلّ ما يتعلّق به النّفع العامّ، أو هو امتثال أوامره ونواهيه‏.‏

- وحقٌّ خالصٌ للعباد، وهو مصالحهم المقرّرة بمقتضى الشّريعة‏.‏

- وما اجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد، كحدّ القذف والتّعزير‏.‏

والأصل أنّ الحقّ للّه سبحانه وتعالى، لأنّه ما من حقٍّ للعبد إلاّ وفيه حقٌّ للّه تعالى، وهو أمره بإيصال ذلك الحقّ إلى مستحقّه‏.‏ وإفراد نوعٍ من الحقوق بجعله حقّاً للعبد فقط، إنّما هو بحسب تسليط العبد على التّصرّف فيه بحيث لو أسقطه لسقط، فكلّ واحدٍ من الحقّين ‏(‏حقّ اللّه وحقّ العبد‏)‏ موكولٌ لمن هو منسوبٌ إليه ثبوتاً وإسقاطاً‏.‏ وبيان ذلك فيما يأتي‏:‏

حقّ اللّه سبحانه وتعالى

39 - ذكر حقّ اللّه هنا فيما يقبل الإسقاط إنّما هو باعتبار قبوله للإسقاط من قبل الشّارع، أمّا من قبل العباد فلا يجوز على ما سيأتي‏.‏

وحقوق اللّه‏:‏ إمّا عباداتٌ محضةٌ ماليّةٌ كالزّكاة، أو بدنيّةٌ كالصّلاة، أو جامعةٌ للبدن والمال كالحجّ‏.‏ وإمّا عقوباتٌ محضةٌ كالحدود‏.‏ وإمّا كفّاراتٌ وهي متردّدةٌ بين العقوبة والعبادة‏.‏ ويقول الفقهاء‏:‏ إنّ حقوق اللّه مبنيّةٌ على المسامحة، بمعنى أنّه سبحانه وتعالى لن يلحقه ضررٌ في شيءٍ، ومن ثمّ قبل الرّجوع عن الإقرار بالزّنى فيسقط الحدّ، بخلاف حقّ الآدميّين فإنّهم يتضرّرون‏.‏ وبإيجازٍ نذكر الأسباب الموجبة لإسقاط حقّ اللّه كما اعتبرها الشّارع‏:‏

40 -حقوق اللّه سبحانه وتعالى تقبل الإسقاط في الجملة للأسباب الّتي يعتبرها الشّرع مؤدّيةً إلى ذلك، تفضّلاً منه، ورحمةً بالعباد، ورفعاً للحرج والمشقّة عنهم، كإسقاط العبادات والعقوبات عن المجنون، وكإسقاط بعض العبادات بالنّسبة لأصحاب الأعذار كالمرضى والمسافرين، لما ينالهم من مشقّةٍ‏.‏ وقد فصّل الفقهاء المشاقّ وأنواعها، وبيّنوا لكلّ عبادةٍ مرتبةً معيّنةً من مشاقّها المؤثّرة في إسقاطها، وأدرجوا ذلك تحت قاعدة‏:‏ المشقّة تجلب التّيسير، أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل عليكم في الدّين من حرجٍ‏}‏‏.‏

والحكم المبنيّ على الأعذار يسمّى رخصةً‏.‏ ومن أقسام الرّخصة ما يسمّى رخصة إسقاطٍ، كإسقاط الصّلاة عن الحائض والنّفساء، وإسقاط الصّوم عن الشّيخ الكبير الّذي لا يقوى عليه‏.‏ وصلاة المسافر قصراً فرضٌ عند الحنفيّة، وفي قولٍ للمالكيّة، وتعتبر رخصة إسقاطٍ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صدقةٌ تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته»‏.‏ وجه الاستدلال‏:‏ أنّ التّصدّق بما لا يحتمل التّمليك إسقاطٌ لا يحتمل الرّدّ، وإن كان ممّن لا يلزم طاعته كوليّ القصاص، فهو من اللّه الّذي تلزم طاعته أولى‏.‏

والمذهب عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ قصر الصّلاة سنّةٌ للتّرفيه عن العبد‏.‏ كذلك يسقط فرض الكفاية عمّن لم يقم به، إذا قام به غيره، بل إنّ القرافيّ يقول‏:‏ يكفي في سقوط المأمور به على الكفاية ظنّ الفعل، لا وقوعه تحقيقاً‏.‏

ومن ذلك أيضاً إسقاط الحرمة في تناول المحرّم للضّرورة، كأكل المضطرّ للميتة، وإساغة اللّقمة بالخمر لمن غصّ بها، وإباحة نظر العورة للطّبيب‏.‏ ويسري هذا الحكم على المعاملات، فمن الرّخصة ما سقط مع كونه مشروعاً في الجملة، وذلك كما في السّلم، لقول الرّاوي‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخّص في السّلم»‏.‏ وأنّ الأصل في البيع أن يلاقي عيناً، وهذا حكمٌ مشروعٌ، لكنّه سقط في السّلم‏.‏ ومن التّخفيف‏:‏ مشروعيّة الطّلاق، لما في البقاء على الزّوجيّة من المشقّة عند التّنافر، وكذا مشروعيّة الخلع والافتداء، ومشروعيّة الكتابة ليتخلّص العبد من دوام الرّقّ‏.‏ وكلّ ذلك مفصّلٌ في أبوابه الخاصّة من كتب الفقه، وفي بابي‏:‏ الرّخصة والأهليّة من كتب الأصول‏.‏

حقوق العباد

41 - المقصود بحقوق العباد هنا، ما عدا الأعيان والمنافع والدّيون، وذلك لحقّ الشّفعة والقصاص والخيار‏.‏ والأصل أنّ كلّ من له حقٌّ إذا أسقطه - وهو من أهل الإسقاط، والمحلّ قابلٌ للسّقوط - سقط‏.‏ فالشّفيع له حقّ الأخذ بالشّفعة بعد البيع، فإذا أسقط هذا الحقّ وترك الأخذ بالشّفعة سقط حقّه، ووليّ الدّم في القتل العمد له حقّ القصاص، فإذا عفا وأسقط هذا الحقّ كان له ذلك، والغانم قبل القسمة له حقّ التّملّك، ويجوز له إسقاط هذا الحقّ، وإذا ثبت حقّ الخيار للبائع أو للمشتري كان لمن ثبت له منهما هذا الحقّ أن يسقطه‏.‏ وهكذا متى ثبت لإنسانٍ حقٌّ، وهو جائز التّصرّف، كان من حقّه إسقاطه، إلاّ لمانعٍ من ذلك كما سيأتي، وهذا باتّفاقٍ‏.‏

هذا بالنّسبة لإسقاط الحقوق بدون عوضٍ، أمّا إسقاطها نظير عوضٍ فبيانه كالآتي‏:‏

42 - فرّق الكثير من فقهاء الحنفيّة بين ما يجوز الاعتياض عنه من الحقوق وما لا يجوز بقاعدةٍ هي‏:‏ أنّ الحقّ إذا كان مجرّداً عن الملك فإنّه لا يجوز الاعتياض عنه، وإن كان حقّاً متقرّراً في المحلّ الّذي تعلّق به صحّ الاعتياض عنه‏.‏ وفرّق البعض الآخر من الحنفيّة بقاعدةٍ أخرى هي‏:‏ أنّ الحقّ إذا كان شرع لدفع الضّرر فلا يجوز الاعتياض عنه، وإذا كانت ثبت على وجه البرّ والصّلة فيكون ثابتاً له أصالةً، فيصحّ الاعتياض عنه‏.‏

ومن يرجع إلى الأمثلة الّتي أوردوها يتبيّن له أنّه لا يكاد يوجد فرقٌ بين القاعدتين، ففي الأشباه لابن نجيمٍ‏:‏ الحقوق المجرّدة لا يجوز الاعتياض عنها، كحقّ الشّفعة، فلو صالح عنه بمالٍ بطلت ورجع به، ولو صالح المخيّرة بمالٍ لتختاره بطل ولا شيء لها، ولو صالح إحدى زوجتيه بمالٍ لتترك نوبتها لم يلزم، ولا شيء لها‏.‏ هكذا ذكروه في الشّفعة‏.‏ وخرج عنها حقّ القصاص وملك النّكاح، وحقّ الرّقّ، فإنّه يجوز الاعتياض عنها‏.‏

والكفيل بالنّفس إذا صالح المكفول له بمالٍ لم يصحّ ولم يجب، وفي بطلانها روايتان‏.‏

وفي حاشية ابن عابدين‏:‏ لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجرّدة كحقّ الشّفعة، ثمّ أورد نفس الأمثلة الّتي جاءت في الأشباه، ثمّ قال‏:‏ وعدم جواز الصّلح عن حقّ الشّفعة وحقّ القسم للزّوجة وحقّ الخيار في النّكاح للمخيّرة إنّما هو لدفع الضّرر عن الشّفيع والمرأة، وما ثبت لذلك لا يصحّ الصّلح عنه، لأنّ صاحب الحقّ لمّا رضي علم أنّه لا يتضرّر بذلك، فلا يستحقّ شيئاً‏.‏ أمّا حقّ القصاص وملك النّكاح وحقّ الرّقّ فقد ثبت على وجه البرّ والصّلة، فهو ثابتٌ له أصالةً، لا على وجه رفع الضّرر عن صاحبه‏.‏ وسار صاحب البدائع على أنّ الحقّ الّذي يجوز الاعتياض عنه، هو الحقّ الثّابت في المحلّ أصالةً‏.‏

أمّا الجمهور ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ فلم نعثر لهم على قاعدةٍ يمكن الاستناد إليها في معرفة الحقوق الّتي يجوز الاعتياض عنها والّتي لا يجوز، وإنّما يعرف ذلك بالرّجوع إلى المسائل في أماكنها من أبواب الفقه، كالحضانة والشّفعة والخيار في العقود وما شابه ذلك، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الأمثلة‏.‏ والجمهور أحياناً مع الحنفيّة في بعض المسائل، مع اتّفاقهم في سبب الاعتياض، وأحياناً يختلفون عنهم‏.‏ وسيظهر ذلك من الأمثلة‏.‏

أ - الاعتياض عن حقّ الشّفعة، هو غير جائزٍ عند الحنفيّة كما سبق، ويوافقهم في الحكم وفي العلّة الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ في حين أجاز الاعتياض عنها المالكيّة، وفي روايةٍ عن الإمام أحمد‏:‏ إذا كان الاعتياض، من المشتري لا من غيره‏.‏

ب - هبة الزّوجة يومها لضرّتها، لا يجوز الاعتياض عنه عند الحنفيّة، ووافقهم الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ قال الشّافعيّة‏:‏ لأنّه ليس عيناً ولا منفعةً فلا يقابل بمالٍ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الزّوجة من حقّها كون الزّوج عندها، وهو لا يقابل بمالٍ‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ قياس المذهب جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره‏.‏ والمالكيّة أجازوا الاعتياض عن حقّها في ذلك، لأنّه عوضٌ عن الاستمتاع أو عن إسقاط الحقّ‏.‏

ت - إذا تعذّر ردّ المبيع المعيب كان للمشتري الحقّ في الاعتياض عن العيب‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو المذهب عند الشّافعيّة، لأنّ الرّضى بالعيب يمنع الرّجوع بالنّقصان،«ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل لمشتري المصرّاة الخيار بين الإمساك من غير أرشٍ وبين الرّدّ»‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ يجوز إمساك المبيع والاعتياض عن العيب، لأنّه فات عليه جزءٌ من المبيع، فكان له المطالبة بعوضه، ويخالف المصرّاة، لأنّ الخيار له بالتّدليس، وكذلك في القول الثّاني عند الشّافعيّة‏.‏

ث - القصاص يجوز الاعتياض عنه عند جميع الفقهاء‏.‏

ج - يصحّ الصّلح عن إسقاط حقّ الدّعوى، كحقّ الشّفعة والشّرب، إلاّ ما كان مخالفاً للشّرع كدعوى الحدّ والنّسب، ولأنّ الصّلح في الدّعوى لافتداء اليمين، وهو جائزٌ‏.‏

ح - يجوز الصّلح عن التّعزير الّذي هو حقّ العبد، لكن قال أبو حنيفة‏:‏ إنّ التّعزير الّذي فيه حقّ اللّه كقبلة الأجنبيّة، فالظّاهر عدم صحّة الصّلح فيه‏.‏

خ - يجوز الاعتياض عن إسقاط حقّ الحضانة عند الحنفيّة والمالكيّة، على القول بأنّها حقّ الحاضن‏.‏

د - يجوز الاعتياض عن إسقاط حقّ الرّجوع في الهبة عند الحنفيّة ونكتفي بذكر هذه الأمثلة، إذ من العسير حصر الحقوق الّتي يجوز الاعتياض عنها، ويرجع في ذلك إلى المسائل في أبوابها من كتب الفقه‏.‏

ما لا يقبل الإسقاط

أ - العين‏:‏

43 - العين ما يحتمل التّعيين مطلقاً، جنساً ونوعاً وقدراً وصفةً، كالعروض من الثّياب، والعقار من الأرضين والدّور، والحيوان من الدّوابّ، والمكيل والموزون‏.‏

ومالك العين يجوز له التّصرّف فيها بالنّقل على الوجه المشروع من بيعٍ أو غيره‏.‏ أمّا التّصرّف فيها بالإسقاط - أي رفع الملك وإزالته، بأن يقول الشّخص مثلاً‏:‏ أسقطت ملكي في هذه الدّار لفلانٍ، يريد بذلك زوال ملكه وثبوته لغيره - فهذا باطلٌ، ولا يفيد زوال ملك المسقط عن العين، وثبوت الملك فيها للمسقط له‏.‏ وقد اتّفق الفقهاء على أنّ الأعيان لا تقبل الإسقاط‏.‏ إلاّ ما ورد بالنّسبة للعتق والوقف على ما سبق بيانه‏.‏

44 - لكن لو حدث هذا التّصرّف من المالك، وكانت العين تحت يد المسقط له، فإن كانت العين مغصوبةً هالكةً صحّ الإسقاط، لأنّه حينئذٍ يكون إسقاطاً لقيمتها المترتّبة في ذمّته، فصار إسقاطاً للدّين، وإسقاط الدّين صحيحٌ‏.‏

وإن كانت العين قائمةً، فمعنى إسقاطها إسقاط ضمانها لو هلكت، وتصير بعد البراءة من عينها كالأمانة، لا تضمن إلاّ بالتّعدّي‏.‏ وقال زفر رحمه الله‏:‏ لا يصحّ الإبراء وتبقى مضمونةً‏.‏ وإن كانت العين أمانةً، فالبراءة عنها لا تصحّ ديانةً، بمعنى أنّ مالكها إذا ظفر بها أخذها‏.‏ وتصحّ قضاءً، فلا يسمع القاضي دعواه بعد البراءة‏.‏ وقد قالوا‏:‏ الإبراء عن الأعيان باطلٌ ديانةً لا قضاءً‏.‏ ومعناه أنّها تكون ملكاً له بالإبراء، وإنّما الإبراء عنها صحيحٌ في سقوط الضّمان، أو يحمل على الأمانة‏.‏

ويقول المالكيّة‏:‏ إنّ البراءة من المعيّنات يسقط بها الطّلب بقيمتها إذا فاتت، والطّلب برفع اليد عنها إن كانت قائمةً‏.‏ وهذا هو المشهور من المذهب، إلاّ إنّه نقل عن المازريّ ما ظاهره أنّ الإبراء يشمل الأمانات وهي معيّناتٌ ‏(‏وهذا في الإبراء العامّ‏)‏‏.‏ كذلك صرّح ابن عبد السّلام بأنّ الإسقاط في المعيّن، والإبراء أعمّ منه يكون في المعيّن وغيره‏.‏

ب - الحقّ‏:‏

ذكر فيما سبق ما يقبل الإسقاط من الحقوق، سواءٌ أكان من حقّ اللّه أم من حقّ العبد، ونذكر فيما يلي ما لا يقبل الإسقاط منهما‏.‏

ما لا يقبل الإسقاط من حقوق اللّه تعالى

45 - الأصل أنّ حقّ اللّه لا يقبل الإسقاط من أحدٍ من العباد، وأنّ ذلك موكولٌ إلى صاحب الشّرع لاعتباراتٍ خاصّةٍ، كالتّخفيف عن العباد على ما سبق‏.‏ فحقّ اللّه الخالص من العبادات كالصّلاة والزّكاة، ومن العقوبات كحدّ الزّنى وحدّ شرب الخمر، ومن الكفّارات وغير ذلك من الحقوق الّتي ثبتت للعبد بمقتضى الشّريعة كحقّ الولاية على الصّغيرة، حقّ اللّه هذا لا يجوز لأحدٍ من العباد إسقاطه، لأنّه لا يملك الحقّ في ذلك، بل إنّ من حاول ذلك فإنّه يقاتل، كما فعل أبو بكرٍ رضي الله عنه بمانعي الزّكاة‏.‏ حتّى إنّ السّنن الّتي فيها إظهار الدّين، وتعتبر من شعائره، كالأذان، لو اتّفق أهل بلدةٍ على تركه وجب قتالهم‏.‏

46 - كذلك لا يجوز التّحيّل على إسقاط العبادات، كمن دخل عليه وقت صلاة، فشرب خمراً أو دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها - وهو فاقدٌ لعقله - كالمغمى عليه‏.‏ وكمن كان له مالٌ يقدر به على الحجّ، فوهبه كيلاً يجب عليه الحجّ‏.‏

47 - وتحرم الشّفاعة لإسقاط الحدود الخالصة للّه تعالى‏.‏ وفي السّرقة كذلك بعد الرّفع للحاكم، لأنّ الحدّ فيها حقّ اللّه تعالى، وقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «أتي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسارقٍ قد سرق، فأمر به فقطع، فقيل‏:‏ يا رسول اللّه ما كنّا نراك تبلغ به هذا، قال‏:‏ لو كانت فاطمة بنت محمّدٍ لأقمت عليها الحدّ»‏.‏ وروى عروة قال‏:‏«شفع الزّبير في سارقٍ فقيل‏:‏ حتّى يأتي السّلطان، قال‏:‏ إذا بلغ السّلطان فلعن اللّه الشّافع والمشفّع»‏.‏ ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لصفوان، حين تصدّق على السّارق‏:‏ «فهلاّ قبل أن تأتيني به»‏.‏ وقال النّوويّ في شرح مسلمٍ‏:‏ وأجمعوا على تحريم الشّفاعة في الحدود بعد بلوغه الإمام، فأمّا قبل بلوغه الإمام فقد أجازه أكثر العلماء، إذا لم يكن المشفوع فيه صاحب شرٍّ وأذًى للمسلمين، فإن كان لم يشفع فيه‏.‏

48 - ويلاحظ أنّ السّرقة، وإن كان الحدّ فيها هو حقّ اللّه، إلاّ أنّ الجانب الشّخصيّ فيها متحقّقٌ ناحية المال، ولذلك يجوز الإبراء من المال‏.‏ أمّا الحدّ فإنّه يجوز العفو عنه قبل الرّفع للحاكم، أمّا بعده فلا يجوز‏.‏ لكن قال الحنفيّة - غير زفر، وروايةٌ لأبي يوسف - لو أنّ المسروق منه ملّك المسروق للسّارق سقط الحدّ‏.‏

والقذف ممّا يجتمع فيه حقّ اللّه وحقّ العبد، مع الاختلاف في تغليب أحدهما، وعلى الجملة، فإنّه يجوز العفو فيه ‏(‏أي الإسقاط‏)‏ قبل التّرافع وبعده عند الشّافعيّة والحنابلة، ولا يجوز بعد الرّفع عند الحنفيّة، غير أنّ المالكيّة قيّدوا العفو بعد التّرافع بما إذا كان المقذوف يريد السّتر على نفسه، ويثبت ذلك بالبيّنة‏.‏ ولا يشترط هذا القيد بين الابن وأبيه‏.‏ وروي عن الإمام أبي يوسف أنّه يجوز العفو كذلك بعد الرّفع للإمام‏.‏

وأمّا التّعزير، فما كان منه حقّاً للآدميّ جاز العفو عنه، وما كان حقّاً للّه فهو موكولٌ إلى الإمام‏.‏ ونقل عن الإمام مالكٍ أنّه يجب على الإمام إقامته إذا كان في حقّ اللّه‏.‏

وعن الإمامين أبي حنيفة وأحمد أنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه، كوطء جارية امرأته فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن منصوصاً عليه فهو موكولٌ إلى الإمام‏.‏

49 - وما دامت حدود اللّه لا تقبل الإسقاط من العباد، فبالتّالي لا يجوز الاعتياض عن إسقاطها، فلا يصحّ أن يصالح سارقاً أو شارباً ليطلقه ولا يرفعه للسّلطان، لأنّه لا يصحّ أخذ العوض في مقابلته‏.‏ وكذا لا يصحّ أن يصالح شاهداً على ألاّ يشهد عليه بحقٍّ للّه أو لآدميٍّ، لأنّ الشّاهد في إقامة الشّهادة محتسبٌ حقّاً للّه تعالى، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الشّهادة للّه‏}‏ والصّلح عن حقوق اللّه عزّ وجلّ باطلٌ ويجب عليه ردّ ما أخذ، لأنّه أخذه بغير حقٍّ‏.‏

وهناك أيضاً ما يعتبر حقّاً للّه تعالى ممّا شرع أصلاً لمصلحة العباد، ولذلك لا يسقط بالإسقاط، لما في ذلك من منافاة الإسقاط لما هو مشروعٌ‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏

الولاية على الصّغير

50 - من الحقوق الّتي اعتبرها الشّارع وصفاً ذاتيّاً لصاحبها، ولاية الأب على الصّغير، فهي لازمةٌ له ولا تنفكّ عنه، فحقّه ثابتٌ بإثبات الشّرع، فهي حقٌّ عليه للّه تعالى، ولذلك لا تسقط بإسقاطه، لأنّ ذلك يعتبر خلاف المشروع، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ أمّا غير الأب كالوصيّ ففيه خلافٌ‏.‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إذا كان الوصيّ قد قبل الوصاية، ومات الموصي، فلا يجوز له عزل نفسه لثبوت هذا الحقّ له‏.‏ ولأنّها ولايةٌ فلا تسقط بالإسقاط‏.‏

أمّا الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ فإنّه يجوز عندهم أن يسقط الوصيّ حقّه، ولو بعد قبوله بعد موت الموصي، لأنّه متصرّفٌ بالإذن، فكان له عزل نفسه كالوكيل‏.‏

وينظر تفصيل أنواع الولايات، كالقاضي وناظر الوقف، في مصطلح ‏(‏ولايةٌ‏)‏‏.‏

السّكنى في بيت العدّة

51 - أوجب الشّارع على المعتدّة أن تعتدّ في المنزل الّذي يضاف إليها بالسّكنى حال وقوع الفرقة أو الموت، والبيت المضاف إليها في قوله تعالى ‏{‏لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ‏}‏ هو البيت الّذي تسكنه‏.‏ ولا يجوز للزّوج ولا لغيره إخراج المعتدّة من مسكنها‏.‏ وليس لها أن تخرج وإن رضي الزّوج بذلك، لأنّ في العدّة حقّاً للّه تعالى، وإخراجها أو خروجها من مسكن العدّة منافٍ للمشروع، فلا يجوز لأحدٍ إسقاطه‏.‏ وهذا في الجملة، لأنّ المذهب عند الحنابلة‏:‏ أنّه لا يجب على المطلّقة البائنة قرارها في مسكن العدّة، لحديث فاطمة بنت قيسٍ الّذي فيه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ «لا نفقة لك ولا سكنى»‏.‏

وإنّما يستحبّ لها ذلك، خروجاً من الخلاف‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ر‏:‏ ‏(‏عدّةٌ، سكنى‏)‏‏.‏

خيار الرّؤية

52 - بيع الشّيء قبل رؤيته يثبت خيار الرّؤية للمشتري، فله الأخذ وله الرّدّ عند رؤيته، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من اشترى شيئاً لم يره فله الخيار إذا رآه» فالخيار هنا ليس باشتراط العاقدين، وإنّما هو ثابتٌ شرعاً فكان حقّ اللّه تعالى، ولهذا لا يجوز إسقاطه، ولا يسقط بالإسقاط، وهذا متّفقٌ عليه عند من يجيزون بيع الشّيء الغائب، مع مراعاة شرائط ثبوت الخيار‏.‏

ولو أنّ العاقدين تبايعا بشرط إسقاط خيار الرّؤية بطل الشّرط مع الخلاف في صحّة العقد وفساده، بناءً على حكم الشّروط الفاسدة في البيع‏.‏ وينظر التّفصيل في‏:‏ ‏(‏بيعٌ، خيارٌ‏)‏‏.‏

حقّ الرّجوع في الهبة

53 - حقّ الرّجوع في الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها - وهي فيما يهبه الوالد لولده عند الجمهور، وفيما يهبه الإنسان إذا لم يوجد مانعٌ من موانع الرّجوع في الهبة عند الحنفيّة - حقٌّ ثابتٌ شرعاً، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ لرجلٍ أن يعطي عطيّةً أو يهب هبةً، فيرجع فيها، إلاّ الوالد بما يعطي ولده»‏.‏ وهذا ما استدلّ به الجمهور‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الواهب أحقّ بهبته ما لم يثب منها» أي ما لم يعوّض‏.‏ قالوا‏:‏ والعوض فيما وهب لذي الرّحم المحرّم هو‏:‏ صلة الرّحم، وقد حصل‏.‏

وما دام حقّ الرّجوع في الهبة - فيما يجوز الرّجوع فيه - ثابتاً شرعاً فإنّه لا يجوز إسقاطه، ولا يسقط بالإسقاط‏.‏ وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة في قولٍ‏.‏ والقول الآخر للحنابلة أنّ الرّجوع حقّه، وهو يسقط بإسقاطه‏.‏ وعند المالكيّة يجوز للأب الرّجوع فيما وهبه لولده، إلاّ إذا أشهد عليها، أو شرط عدم الاعتصار ‏(‏أي الرّجوع‏)‏، فلا رجوع له حينئذٍ على المشهور‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏هبةٌ‏)‏‏.‏

ما لا يقبل الإسقاط من حقوق العباد

سبق أنّ كلّ جائز التّصرّف لا يمنع من إسقاط حقّه ما لم يكن هناك مانعٌ، وفيما يلي بيان بعض ما لا يقبل الإسقاط من الحقوق اتّفاقاً أو عند بعض الفقهاء، إمّا لفقد شرطٍ من شروط المحلّ، أو شرطٍ من شروط الإسقاط في حدّ ذاته‏.‏

ما يتعلّق به حقّ الغير

54 - الإسقاط إذا كان مسّ حقّاً لغير من يباشره فإنّه لا يصحّ، إذا كان فيه ضررٌ على الغير كحقّ الصّغير، أو يتوقّف على إجازة من يملك الإجازة كالوارث والمرتهن، ومن أمثلة ذلك ما يأتي‏:‏

حقّ الحضانة

55 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو أيضاً قولٌ للمالكيّة خلاف المشهور عندهم - أنّ للحاضن أن يسقط حقّه بإسقاطه، وينتقل الحقّ إلى من بعده، ولا يجبر على الحضانة إلاّ إذا تعيّن ولم يوجد حاضنٌ غيره، ثمّ إن عاد الحاضن فطلب الحضانة عاد الحقّ إليه‏.‏ وخالف ذلك المالكيّة في المشهور عندهم فقالوا‏:‏ إنّ الحاضنة إذا أسقطت حقّها من الحضانة لغير عذرٍ، بعد وجوبها لها، ثمّ أرادت العود فلا تعود‏.‏

وللتّفصيل ر‏:‏ ‏(‏حضانةٌ‏)‏‏.‏

نسب الصّغير

56 - النّسب حقّ الصّغير، فإذا ثبت هذا الحقّ فإنّه لا يجوز لمن لحق به إسقاط هذا الحقّ، فمن أقرّ بابنٍ، أو هنّئ به فسكت، أو أمّن على الدّعاء، أو أخّر نفيه مع إمكان النّفي فقد التحق به، ولا يصحّ له إسقاط نسبه بعد ذلك‏.‏

ولو أنّ امرأةً طلّقها زوجها ادّعت عليه صبيّاً في يده أنّه ابنه منها، وجحد الرّجل فصالحت عن النّسب على شيءٍ فالصّلح باطلٌ، لأنّ النّسب حقّ الصّبيّ لا حقّها‏.‏

عزل الوكيل

57 - الأصل أنّ الموكّل يجوز له عزل الوكيل متى شاء، لأنّه تصرّف في خالص حقّه، لكن لو تعلّق بالوكالة حقٌّ للغير، فلا يجوز له أن يعزله بغير رضى صاحب الحقّ، لأنّ في العزل إبطال حقّه من غير رضاه، وذلك كالوكيل في الخصومة لا يجوز عزله ما دامت الخصومة مستمرّةً‏.‏ وكالعدل المتسلّط على بيع المرهون‏.‏

وذلك في الجملة عند الحنفيّة والمالكيّة، مع تفصيلٍ كثيرٍ في شروط العزل وشروط الوكالة في الخصومة، وتنظر في‏:‏ ‏(‏وكالةٌ، رهنٌ‏)‏‏.‏

تصرّف المفلس

58 - المحجور عليه للفلس، يتعلّق حقّ الغرماء بماله، ولذلك لا يجوز له التّصرّف في ماله تصرّفاً مستأنفاً، كوقفٍ، وعتقٍ، وإبراءٍ، وعفوٍ مجّاناً فيما لا قصاص فيه، وذلك لتعلّق حقّ الغرماء بماله، فهو محجورٌ عليه فيه، أشبه الرّاهن يتصرّف في الرّهن‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏حجرٌ، فلسٌ‏)‏‏.‏

إسقاط الحقّ قبل وجوبه، وبعد وجود سبب الوجوب

59 - يتّفق الفقهاء على عدم صحّة الإسقاط قبل وجوب الحقّ، وقبل وجود سبب الوجوب، لأنّ الحقّ قبل ذلك غير موجودٍ بالفعل، فلا يتصوّر ورود الإسقاط عليه، فإسقاط ما لم يجب، ولا جرى سبب وجوبه لا يعتبر إسقاطاً، وإنّما مجرّد وعدٍ لا يلزم منه الإسقاط مستقبلاً، كإسقاط الشّفعة قبل البيع، وإسقاط الحاضنة حقّها في الحضانة قبل وجوبها، فكلّ هذا لا يعتبر إسقاطاً، وإنّما هو امتناعٌ عن الحقّ في المستقبل، ويجوز الرّجوع فيه والعود إلى المطالبة بالحقّ‏.‏

60 - أمّا إذا لم يجب الحقّ، ولكن وجد سبب وجوبه، ففي صحّة الإسقاط حينئذٍ اختلاف الفقهاء‏:‏ فعند الحنفيّة والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكيّة، ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يصحّ الإسقاط بعد وجود السّبب وقبل الوجوب‏.‏

فقد جاء في بدائع الصّنائع‏:‏ الإبراء عن الحقّ بعد وجود سبب الوجوب قبل الوجوب جائزٌ، كالإبراء عن الأجرة قبل مضيّ مدّة الإجارة‏.‏ وفي فتح القدير‏:‏ الإبراء عن سائر الحقوق بعد وجود سبب الوجوب جائزٌ‏.‏ وفي شرح منتهى الإرادات، ومثله في المغني‏:‏ إن عفا مجروحٌ عمداً أو خطأً عن قود نفسه أو ديتها صحّ عفوه، لإسقاطه حقّه بعد انعقاد سببه‏.‏

وفي فتح العليّ المالك وردت عدّة مسائل‏:‏ كإبراء الزّوجة زوجها من الصّداق في نكاح التّفويض قبل البناء وقبل أن يفرض لها، وإسقاط المرأة عن زوجها نفقة المستقبل، وكعفو المجروح عمّا يئول إليه الجرح‏.‏ ثمّ قال نقلاً عن ابن عبد السّلام‏:‏ وبعض هذه المسائل أقوى من بعضٍ، فهل يلزم الإسقاط في ذلك، لأنّ سبب الوجوب قد وجد أو لا يلزم لأنّها لم تجب‏؟‏ قولان حكاهما ابن رشدٍ‏.‏ وفي الدّسوقيّ ذكر أنّ المعتمد هو لزوم الإسقاط لجريان السّبب‏.‏ والأظهر عند الشّافعيّة والقول الثّاني للمالكيّة‏:‏ أنّه يصحّ إسقاط الحقّ قبل وجوبه، وإن جرى سبب وجوبه‏.‏

جاء في نهاية المحتاج‏:‏ لو أبرأ المشتري البائع عن الضّمان لم يبرّأ في الأظهر، إذ هو إبراءٌ عمّا لم يجب، وهو غير صحيحٍ وإن وجد سببه، والقول الثّاني‏:‏ يبرّأ لوجود سبب الضّمان‏.‏ واستثنى الشّافعيّة صورةً يصحّ فيها الإسقاط قبل الوجوب وهي‏:‏ من حفر بئراً في ملك غيره بلا إذنٍ، وأبرأه المالك، ورضي ببقائها، فإنّه يبرّأ ممّا وقع فيها‏.‏

إسقاط المجهول

61 - إسقاط الحقّ المعلوم لا خلاف فيه، والخلاف إنّما هو في المجهول، كالدّين، والعيب في المبيع، وحصّةٍ في تركةٍ، وما ماثل ذلك‏.‏ فهذا النّوع محلّ خلافٍ بين الفقهاء في صحّة إسقاطه، بناءً على اختلافهم في الإبراء من الدّين، هل هو تمليكٌ أو إسقاطٌ‏؟‏

فعند الحنفيّة والمالكيّة، وهو المشهور عند الحنابلة، والقديم عند الشّافعيّ‏:‏ أنّه يجوز الإبراء من المجهول، «لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن اختصما في مواريث قد درست‏:‏ استهما، وتوخّيا الحقّ، وليحلل كلٌّ منكما صاحبه»‏.‏ ولأنّه إسقاط حقٍّ لا تسليم فيه، فصحّ في المجهول، لأنّ الجهالة فيه لا تفضي إلى المنازعة‏.‏ ومن ذلك عند الحنابلة‏:‏ صحّة الصّلح عمّا تعذّر علمه من الدّين، لئلاّ يفضي إلى ضياع المال‏.‏

وفي الجديد عند الشّافعيّ، وهو روايةٌ عند الحنابلة‏:‏ أنّه لا يصحّ الإبراء من المجهول، بناءً على أنّه تمليك ما في ذمّته، فيشترط العلم به‏.‏

ولا فرق عند الشّافعيّة، والحنابلة على القول بعدم الصّحّة بين مجهول الجنس والقدر والصّفة‏.‏ ويستثني الشّافعيّة من الإبراء من المجهول صورتين‏:‏

الأولى‏:‏ الإبراء من إبل الدّية، فيصحّ الإبراء منها مع الجهل بصفتها، لاغتفارهم ذلك في إثباتها في ذمّة الجاني‏.‏ وكذا الأرش والحكومة يصحّ الإبراء منهما مع الجهل بصفتهما‏.‏ الثّانية‏:‏ إذا ذكر قدراً يتحقّق أنّ حقّه أقلّ منه‏.‏ وأضيف إلى هاتين الصّورتين ما لو أبرأه عمّا عليه بعد موته، فيصحّ مع الجهالة، لأنّه وصيّةٌ‏.‏ كذلك الجهل اليسير الّذي يمكن معرفته لا يؤثّر في الإسقاط عند الشّافعيّة، كالإبراء من حصّته من مورّثه في التّركة، إن علم قدر التّركة، وجهل قدر حصّته‏.‏ وإن أجاز الوارث وصيّة مورّثه فيما زاد على الثّلث، وقال‏:‏ إنّما أجزت لأنّي ظننت المال قليلاً، وأنّ الثّلث قليلٌ، وقد بان أنّه كثيرٌ، قبل قوله بيمينه، وله الرّجوع بما زاد على ظنّه، ما لم يكن المال ظاهراً لا يخفى على المجيز، أو تقوم بيّنةٌ بعلمه وبقدره، وهذا في الجملة‏.‏

62 - أمّا الإبراء من العيوب في البيع، فالحكم فيه عند الحنفيّة والمالكيّة كالحكم في الدّين، مع تفصيلٍ بين الحادث والقائم‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ الأشهر فيه عدم صحّة الإبراء‏.‏

والرّأي الثّاني‏:‏ يجوز الإبراء فيه‏.‏ وأمّا عند الشّافعيّة ففيه طريقان‏:‏

أحدهما أنّ المسألة على ثلاثة أقوالٍ‏:‏ قولٌ بصحّة البراءة من كلّ عيبٍ، وقولٌ بعدم صحّة البراءة والثّالث أنّه لا يبرّأ إلاّ من عيبٍ واحدٍ، وهو العيب الباطن في الحيوان الّذي لا يعلم به البائع، قال الشّافعيّ رحمه الله‏:‏ لأنّ الحيوان يفارق ما سواه، وقلّما يبرّأ من عيبٍ يظهر أو يخفى، فدعت الحاجة إلى التّبرّي من العيب الباطن فيه‏.‏

هذه أمثلةٌ لما لا يقبل الإسقاط بالاتّفاق، أو مع الاختلاف لعدم تحقّق شرطٍ من شروط المحلّ أو شروط الإسقاط في حدّ ذاته‏.‏

63 - وهناك كثيرٌ من الحقوق الّتي لا تقبل الإسقاط لأسبابٍ مختلفةٍ، ومن العسير حصر هذه الحقوق لتشعّبها في مسائل الفقه المختلفة‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏ حقّ الزّوج في الاستمتاع‏.‏ وهناك ما لا يسقط لقاعدةٍ عند الشّافعيّة وهي‏:‏ أنّ صفات الحقوق لا تفرد بالإسقاط كالأجل والجودة، بينما يجوز إسقاطهما عند الحنفيّة خروجاً عن قاعدة ‏"‏ التّابع تابعٌ ‏"‏‏.‏

كذلك قال الحنفيّة‏:‏ إنّ الشّرط إذا كان في عقدٍ لازمٍ فإنّه يلزم ولا يقبل الإسقاط، فلو قال ربّ السّلم‏:‏ أسقطت حقّي في التّسليم في ذلك المكان أو البلد لم يسقط‏.‏ وكمن أسقط حقّه فيما شرط له من ريع الوقف لا لأحدٍ، لأنّ الاشتراط له صار لازماً كلزوم الوقف‏.‏

وغير ذلك كثيرٌ، وينظر في مواضعه‏.‏

تجزّؤ الإسقاط

64 - من المعلوم أنّ الإسقاط يرد على محلٍّ، والمحلّ هو الأساس في بيان حكم التّجزّؤ، فإذا كان المحلّ يقبل الإسقاط في بعضه دون البعض الآخر، قيل‏:‏ إنّ الإسقاط يتجزّأ‏.‏

وإن كان المحلّ لا يمكن أن يثبت بالإسقاط في بعضه، بل يثبت في الكلّ، قيل‏:‏ إنّ الإسقاط لا يتجزّأ‏.‏ ومن القواعد في ذلك عند الحنفيّة، كما ذكر ابن نجيمٍ والأتاسيّ شارح المجلّة‏:‏ ‏"‏ ذكر بعض ما لا يتجزّأ كذكر كلّه ‏"‏‏.‏ فإذا طلّق نصف تطليقةٍ وقعت واحدةٌ، أو طلّق نصف المرأة طلقت، ومنها العفو عن القصاص‏:‏ إذا عفا عن بعض القاتل كان عفواً عن كلّه، وكذا إذا عفا بعض الأولياء سقط القصاص كلّه وانقلب نصيب الباقين مالاً‏.‏

وخرج عن القاعدة العتق عند أبي حنيفة، فإنّه إذا أعتق بعض عبده لم يعتق كلّه‏.‏ وعند الصّاحبين لا يتجزّأ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أعتق شركاً له في مملوكٍ فعليه عتقه كلّه»‏.‏ وأدخل شارح المجلّة تحت القاعدة أيضاً‏:‏ الكفالة بالنّفس، والشّفعة، ووصاية الأب، والولاية‏.‏ وذكر الشّافعيّة هذه القاعدة بتوضيحٍ أكثر فقالوا‏:‏ ما لا يقبل التّبعيض يكون اختيار بعضه كاختيار كلّه، وإسقاط بعضه كإسقاط كلّه‏.‏ وذكروا تحت هذه القاعدة المسائل الّتي سبق إيرادها عن ابن نجيمٍ، وهي‏:‏ الطّلاق والقصاص والعتق والشّفعة‏.‏ فإذا عفا الشّفيع عن بعض حقّه سقط الكلّ‏.‏ واستثنى الشّافعيّة من القاعدة حدّ القذف، فالعفو عن بعضه لا يسقط شيئاً منه‏.‏ قاله الرّافعيّ‏.‏ وزاد في نهاية المحتاج‏:‏ التّعزير، فلو عفا عن بعضه لم يسقط منه شيءٌ‏.‏

والمسائل المشهورة الّتي وردت من طلاقٍ وعتقٍ وقصاصٍ هي محلّ اتّفاقٍ بين المذاهب، في أنّ الطّلاق المبعّض أو المضاف إلى جزءٍ من الزّوجة، أو العتق المضاف إلى جزءٍ من العبد، أو عفو أحد المستحقّين عن القصاص، كلّ هذا يسري على الكلّ، ولا يتبعّض المحلّ، فتطلق المرأة، ويعتق العبد، ويسقط القصاص‏.‏ وهذا في الجملة في الأصل العامّ، إلاّ ما ورد عن أبي حنيفة في العتق كما سبق‏.‏ وللفقهاء تفصيلٌ في فروع كلّ مسألةٍ‏.‏ فمثلاً إضافة الطّلاق أو العتق إلى الظّفر والسّنّ والشّعر لا يقع به شيءٌ عند الحنابلة، لأنّ هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فكانت في حكم المنفصل‏.‏ وفي الإضافة إلى الشّعر قولان عند المالكيّة، ويقع بالإضافة إليه الطّلاق عند الشّافعيّة‏.‏ والشّفعة أيضاً الأصل العامّ فيها أنّها لا تتبعّض، حتّى لا يقع ضررٌ بتفريق الصّفقة‏.‏ فالشّفيع إمّا أن يأخذ الكلّ أو يترك، وإذا أسقط حقّه في البعض سقط الكلّ‏.‏ لكن وقع خلافٌ عند الشّافعيّة، إذ قيل‏:‏ إنّ إسقاط بعض الشّفعة لا يسقط شيئاً منها‏.‏ وليس من تبعيض الشّفعة ما إذا كان البائع أو المشتري اثنين، فإنّ الشّفيع له أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر، وإذا تعدّد الشّفعاء فالشّفعة على قدر الأنصباء‏.‏ والدّين ممّا يقبل التّبعيض، فللدّائن أخذ بعضه وإسقاط بعضه‏.‏

السّاقط لا يعود

65 - من المعلوم أنّ السّاقط ينتهي ويتلاشى، ويصبح كالمعدوم لا سبيل إلى إعادته إلاّ بسببٍ جديدٍ يصير مثله لا عينه، فإذا أبرأ الدّائن المدين فقد سقط الدّين، فلا يكون هناك دينٌ، إلاّ إذا وجد سببٌ جديدٌ، وكالقصاص لو عفي عنه فقد سقط وسلمت نفس القاتل، ولا تستباح إلاّ بجنايةٍ أخرى، وهكذا‏.‏ وكمن أسقط حقّه في الشّفعة، ثمّ رجعت الدّار إلى صاحبها بخيار رؤيةٍ، أو بخيار شرطٍ للمشتري، فليس له أن يأخذ بالشّفعة، لأنّ الحقّ قد بطل، فلا يعود إلاّ بسببٍ جديدٍ‏.‏

والإسقاط يقع على الكائن المستحقّ، وهو الّذي إذا سقط لا يعود، أمّا الحقّ الّذي يثبت شيئاً فشيئاً، أي يتجدّد بتجدّد سببه فلا يرد عليه الإسقاط، لأنّ الإسقاط يؤثّر في الحال دون المستقبل‏.‏ ومثال ذلك ما جاء في خبايا الزّوايا‏:‏ لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض، ورضي المشتري بترك الفسخ، ثمّ بدا له، يمكّن من الفسخ، لأنّ التّسليم مستحقٌّ له في الأوقات كلّها، والإسقاط يؤثّر في الحال دون ما يستحقّ من بعد‏.‏

وقال ابن عابدين‏:‏ لو أسقطت الزّوجة نوبتها لضرّتها فلها الرّجوع، لأنّها أسقطت الكائن، وحقّها يثبت شيئاً فشيئاً، فلا يسقط في المستقبل، ولا يرد أنّ السّاقط لا يعود، لأنّ العائد غير السّاقط، وهذه مسألةٌ متّفقٌ عليها‏.‏ وقد ذكر ابن نجيمٍ قاعدةً في ذلك فقال‏:‏ الأصل أنّ المقتضي للحكم إن كان موجوداً والحكم معدومٌ فهو من باب المانع، وإن عدم المقتضي فهو من باب السّاقط‏.‏ فهناك فرقٌ إذن بين وجود المقتضي للحكم، ثمّ سقط الحكم لمانعٍ، فإذا زال المانع مع وجود المقتضي عاد الحكم، بخلاف ما إذا عدم المقتضي فلا يعود الحكم‏.‏ ومن ذلك حقّ الحضانة‏.‏ جاء في منتهى الإرادات‏:‏ لا حضانة لفاسقٍ، ولا لكافرٍ على مسلمٍ، ولا تزويج بأجنبيٍّ من محضونٍ‏.‏ وبمجرّد زوال المانع من فسقٍ أو كفرٍ، أو تزوّجٍ بأجنبيٍّ، وبمجرّد رجوع ممتنعٍ من حضانةٍ يعود الحقّ له في الحضانة، لقيام سببها مع زوال المانع‏.‏ هذا مع الاختلاف بين الفقهاء، هل الحضانة حقّ الحاضن أو حقّ المحضون‏.‏ وفي الدّسوقيّ‏:‏ إذا انتقلت الحضانة لشخصٍ لمانعٍ، ثمّ زال المانع فإنّها تعود للأوّل، كما لو تزوّجت الأمّ ودخل بها الزّوج، وأخذت الجدّة الولد، ثمّ فارق الزّوج الأمّ، وقد ماتت الجدّة، أو تزوّجت، والأمّ خاليةٌ من الموانع، فهي أحقّ ممّن بعد الجدّة، وهي الخالة ومن بعدها‏.‏ كذا قال المصنّف ‏(‏الدّردير‏)‏، وهو ضعيفٌ‏.‏ والمعتمد أنّ الجدّة إذا ماتت انتقلت الحضانة لمن بعدها كالخالة، ولا تعود للأمّ ولو كانت متأيّمةً ‏(‏لا زوج لها‏)‏‏.‏

وفي الجمل على شرح المنهج‏:‏ لو أسقطت الحاضنة حقّها انتقلت لمن يليها، فإذا رجعت عاد حقّها‏.‏ ومثل ذلك عند الحنفيّة كما في البدائع‏.‏ وقال ابن نجيمٍ‏:‏ وفرّعت على ‏"‏ وقولهم‏:‏ السّاقط لا يعود ‏"‏ قولهم إذا حكم القاضي بردّ شهادة الشّاهد، مع وجود الأهليّة، لفسقٍ أو لتهمةٍ، فإنّه لا يقبل بعد ذلك في تلك الحادثة‏.‏

ومن المسائل الّتي ذكرها ابن نجيمٍ للتّفرقة بين ما هو مسقطٌ وما هو مانعٌ قوله‏:‏ لا يعود التّرتيب بعد سقوطه بقلّة الفوائت، بخلاف ما إذا سقط بالنّسيان فإنّه يعود بالتّذكّر، لأنّ النّسيان كان مانعاً لا مسقطاً، فهو من باب زوال المانع‏.‏ ولا تصحّ إقالة الإقالة في السّلم، لأنّه دينٌ ساقطٌ فلا يعود‏.‏ أمّا عود النّفقة - بعد سقوطها بالنّشوز - بالرّجوع، فهو من باب زوال المانع، لا من باب عود السّاقط‏.‏ وتنظر الفروع في أبوابها‏.‏

أثر الإسقاط

66 - يترتّب على الإسقاط آثارٌ تختلف باختلاف ما يرد عليه‏.‏ ومن ذلك‏:‏

‏(‏1‏)‏ إسقاط رجلٍ الانتقاع بالبضع بالطّلاق، ويترتّب عليه آثارٌ متعدّدةٌ، كالعدّة والنّفقة والسّكنى وجواز الرّجعة، إن كان الطّلاق رجعيّاً، وعدم جواز ذلك إن كان بائناً، وغير ذلك من الآثار‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏طلاقٌ‏)‏‏.‏

‏(‏2‏)‏ الإعتاق وهو‏:‏ إزالة الرّقّ عن المملوك وإثبات الحرّيّة له، يترتّب عليه ملكه لماله وكسبه، وإطلاق يده في التّصرّفات، وإثبات حقّ الولاء للمعتق، وما شابه ذلك من الأحكام‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏عتقٌ‏)‏‏.‏

‏(‏3‏)‏ قد يترتّب على الإسقاط إثبات حقوقٍ تتعلّق بالمحلّ، كإسقاط حقّ الشّفعة، يترتّب عليه استقرار الملك للمشتري، وإسقاط حقّ الخيار في البيع يترتّب عليه لزوم البيع، لأنّ الملك الثّابت بالبيع قبل الاختيار ملكٌ غير لازمٍ‏.‏ وإجازة بيع الفضوليّ يترتّب عليها لزوم البيع الموقوف وينظر تفصيل ذلك في‏:‏ ‏(‏بيعٌ - خيارٌ - شفعةٌ - فضوليٌّ‏)‏‏.‏

‏(‏4‏)‏ ومن الآثار ما يرد تحت قاعدة‏:‏ الفرع يسقط بسقوط الأصل، كما إذا أبرئ المضمون أو المكفول عن الدّين برّئ الضّامن والكفيل، لأنّ الضّامن والكفيل فرعٌ، فإذا سقط الأصل سقط الفرع ولا عكس، فلو أبرئ الضّامن لم يبرّأ الأصيل، لأنّه إسقاط وثيقةٍ فلا يسقط بها الدّين‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏كفالةٌ - ضمانٌ‏)‏‏.‏

‏(‏5‏)‏ وقد يترتّب على الإسقاط الحصول على حقٍّ كان صاحبه ممنوعاً منه، لتعلّق حقّ الغير، وذلك مثل صحّة تصرّف الرّاهن في المرهون، بنحو وقفٍ أو هبةٍ، إذا أذن المرتهن، لأنّ منعه كان لتعلّق حقّ المرتهن به، وقد أسقطه بإذنه‏.‏

‏(‏6‏)‏ الغريم إذا وجد عين ماله عند المفلس كان له حقّ الرّجوع فيه بشروطٍ منها‏:‏ ألاّ يتعلّق بالعين حقٌّ للغير كشفعةٍ ورهنٍ‏.‏ فإذا أسقط أصحاب الحقوق حقوقهم، بأن أسقط الشّفيع شفعته، أو أسقط المرتهن حقّه في الرّهن فلربّ العين أخذها‏.‏

‏(‏7‏)‏ إذا أجّل البائع الثّمن بعد العقد سقط حقّ الحبس على ما جاء في البدائع، لأنّه أخّر حقّ نفسه في قبض الثّمن، فلا يتأخّر حقّ المشتري في قبض المبيع، وكذا لو أبرأ البائع المشتري من الثّمن بطل حقّ الحبس‏.‏

‏(‏8‏)‏ لو أجّلت الزّوجة المهر لوقتٍ معلومٍ، فليس لها أن تمنع نفسها، لأنّ المرأة بالتّأجيل رضيت بإسقاط حقّ نفسها، فلا يسقط حقّ الزّوج‏.‏ وهذا في قول أبي حنيفة ومحمّدٍ، وقال أبو يوسف‏:‏ لها أن تمنع نفسها، لأنّ من حكم المهر أن يتقدّم تسليمه على تسليم النّفس، فلمّا قبل الزّوج التّأجيل كان ذلك رضاً بتأخير حقّ نفسها في القبض، بخلاف البائع‏.‏

ومن ذلك أيضاً الوصيّة فيما زاد على الثّلث بإجازة الورثة‏.‏ وينظر تفصيل كلّ ذلك في‏:‏ ‏(‏إفلاسٌ - بيعٌ - حبسٌ - رهنٌ‏)‏‏.‏

‏(‏9‏)‏ إسقاط الشّارع العبادات بسبب الأعذار قد يسقط الطّلب بها بعد ذلك، فلا يطالب بالقضاء، كالصّوم بالنّسبة للشّيخ الكبير الّذي لا يقدر عليه‏.‏ وقد يطالب بالقضاء، كالصّوم بالنّسبة للحائض والمسافر‏.‏

‏(‏10‏)‏ الإبراء من الدّين أو من الحقّ يترتّب عليه براءة ذمّة المبرّأ متى استوفى الإبراء شروطه‏.‏ وسواءٌ أكان عن حقٍّ خاصٍّ أم حقٍّ عامٍّ، بحسب ما يرد في صيغة المبرّئ‏.‏ ويترتّب كذلك سقوط حقّ المطالبة، فلا تسمع الدّعوى فيما تناوله الإبراء إلى حين وقوعه، دون ما يحدث بعده‏.‏ ولا تقبل الدّعوى بعد ذلك بحجّة الجهل أو النّسيان‏.‏

إلاّ أنّ المالكيّة قيّدوا ذلك بما إذا لم يكن الإبراء مع الصّلح‏.‏ فإذا كان الإبراء مع الصّلح، أو وقع بعد الصّلح إبراءٌ عامٌّ، ثمّ ظهر خلافه فله نقضه، لأنّه إبراءٌ على دوام صفة الصّلح لا إبراءٌ مطلقٌ، إلاّ إذا التزم في الصّلح عدم القيام عليه ولو ببيّنةٍ فلا تسمع الدّعوى‏.‏

هذا، مع استثناء الحنفيّة من الإبراء بعض المسائل، كضمان الدّرك ‏(‏استحقاق المبيع‏)‏، وكدعوى الوكالة والوصاية، وكادّعاء الوارث ديناً للميّت على رجلٍ، وفي ذلك تفصيلٌ كثيرٌ ينظر في ‏(‏إبراءٌ - دعوى‏)‏‏.‏

‏(‏11‏)‏ الإبراء العامّ يمنع الدّعوى بالحقّ قضاءً لا ديانةً، إن كان بحيث لو علم بماله من الحقّ لم يبرّئه، كما في الفتاوى الولوالجية‏.‏ لكن في خزانة الفتاوى‏:‏ الفتوى على أنّه يبرّأ قضاءً وديانةً وإن لم يعلم به‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ لو أبرأه في الدّنيا دون الآخرة برّئ فيهما، لأنّ أحكام الآخرة مبنيّةٌ على أحكام الدّنيا، وهو أحد قولين عند المالكيّة، ذكرهما القرطبيّ في شرح مسلمٍ‏.‏

بطلان الإسقاط

67 - للإسقاط أركانٌ، ولكلّ ركنٍ شروطه الخاصّة، فإذا لم يتحقّق شرطٌ من الشّروط الّتي سبق بيانها بطل الإسقاط، أي بطل حكمه، فلا ينفذ‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏ أنّه يشترط في المسقط أن يكون بالغاً عاقلاً، فإذا كان المتصرّف بالإسقاط صبيّاً أو مجنوناً فلا يصحّ الإسقاط ولا ينفذ‏.‏ ولو كان التّصرّف بالإسقاط منافياً للمشروع، فإنّه يكون تصرّفاً باطلاً ولا يسقط بالإسقاط، كإسقاط الولاية، أو إسقاط حدٍّ من حدود اللّه‏.‏ وكذلك الإسقاط لا يرد على الأعيان، ويعتبر إسقاطها باطلاً‏.‏ ولذلك خرّجه الفقهاء على إسقاط الضّمان‏.‏

وقد يقع الإسقاط صحيحاً، لكن يبطل إذا ردّه المسقط عنه، عند من يقول أنّه يرتدّ بالرّدّ كالحنفيّة‏.‏ في قاعدةٍ ذكرها الحنفيّة هي‏:‏ أنّه إذا بطل الشّيء بطل ما في ضمنه، قلو أبرأه ضمن عقدٍ فاسدٍ فسد الإبراء‏.‏ وأغلب هذه المسائل وردت فيما سبق في البحث‏.‏